صدقت المقاومة وكذب العدو
بينما عدوٌّ، هو الأسفل والأحط في تاريخ الاستعمار، يعمل، بالطرق كلّها، لضم لبنان العربي إلى لائحة حربه الإجرامية، لا يصحّ، بل هو مشين جداً، أن تنطلق المواقف العربية الرسمية من نقطة التحذير من أخطار رقعة الحرب على الطرفَين، وهي الصيغة الدبلوماسية الركيكة التي تُترجَم، في نهاية المطاف، إلى الوقوف على المسافة ذاتها من الطرفَين.
بوضوح شديد الوقاحة، يقول الاحتلال الصهيوني، بلسانه العسكري والسياسي، منذ فترة طويلة، إنّه يعتزم التوسّع في حربه العدوانية لتشمل الجبهة الشمالية. ومن هنا فقط، تجب قراءة التصعيد في مجدل شمس بالجولان السوري المُحتلّ، بوصفه دخولاً تدريجياً مقصوداً من العدو إلى الحرب ضدّ المقاومة اللبنانية، التي أثبتت في مدى عشرة أشهر أخوَّتها وشراكتها المصيرية مع المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزّة وفي الضفّة الغربية.
الصاروخ الذي انطلق حاصداً أرواح سوريين دروزٍ في قرية مجدل شمس صهيوني، أطلقه مجرم الحرب بنيامين نتنياهو من مقرّ إقامته في واشنطن، جزءاً من حربٍ إعلامية مدروسة، يبتزّ بها العالم، ويُظهر الاحتلال في صورة الضحية، في محاولة إلقاء مسؤولية القصف الصاروخي على عاتق المقاومة اللبنانية.
وحين تعلن المقاومة عدم مسؤوليتها عن هذه الجريمة الإسرائيلية يجب أن نصدّقها، ليس لأنّها مقاومتنا التي ننحاز ونتعصّب لها، بل لأنّ الاحتلال تأسّس على أكذوبة تاريخية، ويتعيّش من الكذب والتزوير والتزييف، ويبرّر به جرائمه ضدّ الشعب الفلسطيني، وتلك هي أخلاق اللصوص والقتلة في كلّ العصور، إذ لن تجد في التاريخ كلّه استعماراً من دون حزمة من الأكاذيب تدور عملية صناعتها بإتقان، قبل أن تتحرّك الأساطيل العسكرية.
غزو العراق واستعماره تطلّبا أولاً تدميره، وهذا التدمير استدعى تصنيع أكاذيب مُتعلّقة بأسلحته النووية والكيمائية، ثم كان إسقاط بغداد مشروعاً استعمارياً يُعبّر عن حقد تاريخي مُمتدّ إلى قرون عديدة.
وكذلك يدور العدوان الصهيوني المتواصل على الشعب الفلسطيني، إذ يعمل أسطول الكذب الصهيوني بالقدر ذاته الذي تشتغل به الآلة العسكرية الإسرائيلية والأميركية، وفي خطاب بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي، الأسبوع المنصرم، كان الكذب نموذجياً، إذ لم يشمل الحاضر فقط، بل امتدّ عكسياً ليزيّف تاريخ الأديان والأنبياء، وتاريخ الإنسانية كلّها، لكي يصل إلى أسطورة ساقطة ومزيفة تفترض أن كناسة المجتمعات الأوروبية غير المرغوب فيها، التي ألقيت في أرض فلسطين، هي جزء أصيل من هذه الأرض، بل هي مالكتها وصاحبتها.
هذه الصفاقة الصهيونية في الاجتراء على حقائق التاريخ والجغرافيا لا يجوز أن يتعامل معها أحد من العرب باعتبارها فرضية معقولة أو حقيقية محتملة، فيتعاون مع أصحابها سياسياً واقتصادياً، وفي الحروب يكون موقفه منها النصح والتحذير والمناشدة، أو بجملة واحدة التزام الحياد بينها وبين شقيق عربي، كما هو الحال في البيان المائع الصاقع الصادر عن الخارجية المصرية، الذي يستخدم عبارات مُبهمة وفضفاضة، يحاول بها أن يغطّي خذلاناً قادماً تجاه لبنان.
جملة المواقف العربية ليست أفضل كثيراً من الموقف المصري، كما يُعبِّر عنه بيان الخارجية. ولا نستطيع هنا القول إنّ ذلك كلّه نابع من عدم إدراك تحولات السياسة في المنطقة في أربعة عقود مضت، لم تشهد سوى انسلاخاً للعرب من عروبتهم في مقابل تدثّر الصهاينة بصهيونيتهم الصريحة في أكثر أطوارها جنوناً وانكشافاً، إذ لا تخلو أرشيفات المكتبات العربية من دراسات وأبحاث مُبكّرة تقول إنّ ما نحن بصدده الآن بدأ تنفيذه منذ نهايات القرن الماضي، بل إنّ خطط الجانب الأميركي الإسرائيلي مُعلنة منذ زمن بعيد، وقد اتّضحت أكثر في الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو/ تموز 2006، وهي الحرب التي لخّصها المُعلّق الأميركي بول كريغ روبرتس في مقال بعنوان "الولايات المتّحدة متواطئة مع إسرائيل في تحطيم لبنان"، نشره في ذلك الوقت، ذكر فيه إنّ ما نشاهده في الشرق الأوسط هو تحقّق خطّة المحافظين الجدد في تحطيم أيّ أثر للاستقلال العربي الإسلامي، والقضاء على أيّ معارضة للأجندة الإسرائيلية، مشيراً إلى أنّ هذه النظرة للشرق الأوسط تنطلق من تصوّر أنّ التاريخ متوقّف تماماً في هذه المنطقة، وأنّ الشعب العربي سيظلّ مُجرّد أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعاً أعمى للولايات المتّحدة.
وقد تناول المفكر العربي الراحل عبد الوهاب المسيري، في مقالة مطوّلة، مقتطفات من الصهيوني جاي بخور، نُشِرت في "يديعوت أحرونوت" في أثناء الحرب على لبنان 2006، اشتملت خطّته لإعادة صياغة الشرق الأوسط، إذ يزعم إن هذه الحرب تدافع عن "جوهر" الغرب، تماماً كما يُبرّر نتنياهو الآن عدوانه الإجرامي على غرّة، ويريد توسعته ليشمل لبنان، حيث الهدف الصهيوني واحد لم يتغيّر؛ يجب عدم العودة للشرق الأوسط القديم الذي وصفه الكاتب الإسرائيلي بالقول: "توجد فيه دولة ذات نظام مجنون تتسلّح بسلاح ذرّي وتُسلّح رفيقاتها (إيران)". لذا: "يجب على العالم الغربي أن يستيقظ وأن يفهم أنّ الحديث ليس عن الشرق الأوسط أو إسرائيل فقط، بل عن جوهر وجوده".
تلك هي أهدافهم التي لا يحيدون عنها، وهذه هي أنظمتنا العربية التي تحمي الكيان الصهيونى بأكثر ممّا تحميه الأساطيل الأميركية وترسانته النووية.