شيرين وبعض الغياب
تقاربني الراحلة الباقية في القلوب، شيرين أبو عاقلة، في العمر، ولا أقاربها في أشياء كثيرة تميّزت فيها عني وعن باقي النساء ممن هنّ في عمرها. وفي كلّ مرّةٍ كنت أراها على الشاشة أرى كم هي في أرقٍ وقلق، وكم هي متعبةٌ في حين تقبع النساء ممن هنّ في عمرها في بيوتهن يقمن بأعمال تقليدية روتينية. ولست هنا أقلل من دور الأمهات وربّات البيوت والموظفات صاحبات الأسر، واللواتي يعدن من أعمالهن إلى أعمال الطبخ والتنظيف ورعاية أطفالهن. لكنّي هنا أتخيل فقط، ومن باب الخيال، ماذا لو كانت شيرين مثل باقي النساء اللواتي يعشن هموماً يومية؟
تخيلت شيرين حين يتقدّم بها العمر، وتؤمن زواج آخر الأبناء، وتقبع في بيتها المتواضع في القدس، ثم تنتظر النهاية التقليدية مع أمراض الشيخوخة. تخيّلت كم شخصٍ سوف يسير خلفها في الجنازة وكم شخصٍ سوف يتذكّرها، وأي ذاكرة سوف تتسع لذكرها، مهما بلغت محبّتها ومكانتها، والتخيّل هنا لم يكن أبداً مرضياً، ولذلك عليّ أن أشعر بالسعادة، لأنّ مثل شيرين أبو عاقلة قد حظيت بما يليق بها.
وقع خبر سقوط شيرين برصاصةٍ غادرةٍ عليّ كالصاعقة، وبدأت أتمالك نفسي، وأنا أطالع الغضب العام الجامح، وهو يعمّ العالم، وينتشر من الوطن إلى أبعد حدود الأرض، وكلما رأيت صورتها تحت الشجرة، وقد رقدت مثل عصفورٍ حطّ ليلتقط رزقه، فباغته مراهقٌ أغرّ بفخٍّ منصوب منذ زمن، فأوقعه فيه مع سبق الإصرار والترصّد. نظرت ملياً وطويلاً إلى هذا المشهد، وصرت أفكّر بهذه النهاية المنتقاة لإنسانةٍ بذلت كل حياتها من أجل قضيةٍ آمنت بها ولم تفسح لها وقتاً، لكي تدير حياتها كما ندير حياتنا، نحن النساء، من بنات جيلها، فلم تصبح شيرين زوجةً وأماً، لكنها لم تفقد الكثير، فهي حبيبة الشعب كله، وأم كل الأولاد والبنات من جيل أولادي مثلاً. وعليّ أن أتخيل أنّ أبناء فلسطين مثلاً ممن هم في أعمار أولادي، وقد أصبحوا أولاد شيرين يحبّونها ويذكرونها ويحملونها في قلوبهم كأيقونة فلسطين.
شيرين الخارجة عن نمط تقليدي للمرأة، والمتمرّدة على خط سير حياة منهك، والباحثة عن عملٍ وجدت فيه نفسها، وفتحت باباً فرشت أرضيّته بالشوك، وزرعت جوانبه بألغام الموت الكامنة، لكنّها فعلت ذلك راضيةً وقانعةً ومقتنعة، وأصبحت هي الزائرة لنا، ونحن فوق أرائكنا، وأمام مكاتبنا، وحول نار شتائنا فيما هي تواجه هناك وفي قلب المعركة.
كم نبشت شيرين فينا عجزنا واستسلامنا، كلما رأيناها تركُض هنا وهناك، وخطَّ الشيب رؤوسنا، لكنّنا أبداً لم نكن نشعر بما تشعُر به، حتى جاءت النهاية التي أيقظتنا، قائلة لنا إنّ شيرين أبو عاقلة اختارت أكثر من حياة، ونحن قد اخترنا حياةً واحدةً وميتة واحدة.
حين تطالع وجه شيرين على الشاشة ترى ذلك الحزن الرقيق، وهذا الوجه يخبرك دوماً أنه يعرفك، وأنّك تعرفه حتى وإن لم تلتق به يوماً، إلا من وراء الشاشة، لكن يكفي أن تستقلّ سيارة أجرة عتيقة، فيبدأ السائق العجوز الأمّي في تلاوة سيرتها الذاتية عليك؛ بدءاً من ولادتها وأصولها حتى دراستها الهندسة ثم تفرّغها للصحافة، فتشعر بسعادة لا توصف، وأنت ترى كيف انتصرت تلك المرأة الفارسة على كلّ النهايات المتوقعة لامرأةٍ ليست لها عائلة تقليدية، سرعان ما ستنفضّ من حولها، ويذهب الأبناء كل واحد في شأن، وتبقى وحيدةً تعاني في صمت. لكنّ شيرين عروسٌ بهية لم يمرّ الزمن على وجهها، وبقيت في عيوننا جميلةً رقيقةً رشيقةً أنيقةً حتى وهي تموت، حتى وهي ملفوفةٌ بالعلم، ومحمولةٌ على أكتاف أهلها وعائلتها الأكبر والأوسع والأضخم في العالم أجمع.
في حياة شيرين أبو عاقلة عائلة مميزة، هي عائلتها الصحافية، ولها أكثر من أبٍ وألف أختٍ ومئات الأشقاء، ولا يمكنك إلّا أن تغبطها وتقف بقية عمرك حارساً لبعض الغياب.