شيرين تواصل تغطيتها العدوان الصهيوني
سيظلّ حدث مقتل الإعلامية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، يوم 11 مايو/ أيار الحالي، خلال تغطيتها عملية للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، في قلب الملحمة الفلسطينية. وسيضاف اسمها إلى قوائم الضحايا الذين سقطوا على أرض فلسطين منذ سنة 1948، وعددهم لا يُحْصَى. سيظل الحدث شاهداً على أبشع صور العنف الذي لا تزال قوى الاستيطان تمارسه أمام العالم أجمع.
صادف زمن اغتيالها مرور 74 سنة على نكبة فلسطين، فتحوّل المأتم إلى مآتم تشير إلى مختلف المجازر التي مارست فيها إسرائيل عمليات قتل واجتثاث أجيال من الفلسطينيين الذين أُخرجوا من بيوتهم، ليستقرّ في مدنهم وقُراهم آلاف الصهاينة الذين جرى حملهم من قارات أخرى. وقد تواطأت سياقاتٌ سياسيةٌ محدَّدة، مدعومة بمجموعة من الأساطير والحكايات لتبرير عملية منح اليهود الصهاينة، أرض فلسطين "أرض الميعاد"!
تنضم شيرين زمن ذكرى النكبة إلى قافلة الشهداء، إلّا أنّه لا أحد يمكن أن يُوقِف روايتها المتواصلة في الصباح والمساء، لأحوال المخيمات وأحوال الاستيطان والضَّم، ومختلف الجرائم التي تقوم بها إسرائيل. وقد كان سقوط جسدها وصوتها برصاص الجيش الإسرائيلي المحتل دليلاً قاطعاً على معرفة الصهاينة بأن مصيرهم ومصير مخططاتهم لا يمكن أن يستمر، رغم الإسناد الذي تلقوه ويتلقونه من الولايات المتحدة ومن الغرب الاستعماري، إضافة إلى مخطَّطات التطبيع القديمة والجديدة التي يجري تدبيرها، للتمكّن من بناء ما يسعفهم بحضور مشروع في قلب الوطن العربي، حضور يتغنّى بـ"الصفقة الكبرى" و"الشرق الأوسط الجديد"!
استأنس المواطن العربي بصوت شيرين أبو عاقلة، وهي تروي تفاصيل الأحداث الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي، من وسط (وبمحاذاة) الميادين المشتعلة بالتظاهرات والانتفاضات والمقاومات والحروب، التي لم ولن تتوقف... تخبو وتنطفئ أحياناً، ثم تعود وتتصاعد أخرى. استأنسوا بالنظرة والكلمة والرواية والوقفة الشامخة، وتابعوا، وهم يستمعون إليها، أحوال المخيمات، كما تابعوا أحوال الانتفاضات القائمة والقادمة. وعاينوا مختلف الجرائم الإسرائيلية ومختلف أشكال الازدواجية الحاصلة في مواقف المنظمات الدولية من القضية الفلسطينية، طوال تاريخ من النضال المتواصل، على الرغم من كلّ المخاطر التي تواصل محاصرة المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني... مخاطر الداخل والخارج، ومخاطر تحولات الوعي في التاريخ.
كانت شيرين تجد الكلمات المناسبة لمخاطبة الجميع، وفضح تناقضات الصهاينة والقوى الداعمة لمواقفها
نسجت شيرين بصوتها الهادئ، وهي تقف في الميادين المشتعلة بالحديد والنار والجثث والهشيم والحرائق. نسجت خيوط الأحداث والجرائم التي مارستها إسرائيل فوق أرض فلسطين، كذلك تابعت مختلف صور المقاومة وصور تجدّدها ثم تراجعها في مناسبات عديدة. وحملت روايتها الخاصة المعبِّرة عن أشكال من التعاطف المهني النزيه التي أقامت بينها وبين قضية وطنها الأولى، قضية تحرير فلسطين، نسجت بكلماتها ملحمة، قد يتصوَّر القناص الذي وجّه رصاصته نحو رأسها، أنه بتصفيتها سيُوقف الرواية وينهي الملحمة .. في وقتٍ تواصلت وتتواصل فيه الرواية مع الجموع الغفيرة التي كانت تحمل جسدها في القدس داخل أرض فلسطين، حيث عملت إسرائيل على الاعتراض على عملية الدّفن، ودَفْع الذين يحملون جثمانها إلى التوقف، وهاجمت المستشفى الذي خرج منه جثمانها. إلا أن شيرين نجحت في مواصلة روايتها، رغم مختلف صور العنف التي واصل الجيش الإسرائيلي القيام بها. واصلت شيرين تقديم وصفها لعملية دفنها، وعاين العالم أجمع ذلك. وكان المشاركون في عملية الدفن في القدس ومختلف القرى والمدن الفلسطينية، وكذا في كثير من ميادين المدن العربية التي خرجت للتنديد بجريمة القتل، يعرفون أنّ شيرين تواصل مخاطبتهم، بهدوء ووضوح، وقادرةٌ فعلاً على فضح أساطير الغزاة والمحتلين من الصهاينة.
قدّمت شيرين روايتها خلال أزيد من عقدين؛ تحدّثت عن الحرب والسلام، عن الانقسامات الفلسطينية، عن الجبروت الإسرائيلي، عن الاستيطان والضّمّ والتهجير، رسمت بكلمات بسيطة طموحات الفلسطينيين... تتواصل اليوم أصداء صوتها رغم الرصاصة القاتلة التي أوقفتها عن الكلام، وهي اليوم تواصل العمل في جبهاتٍ جديدة، تخاطب المطبّعين الجدد، فتنظر إليهم وتكشف أشكال التواطؤ التي انخرطوا فيها، ثم تذكّرهم بمخاطر الصهيونية في فلسطين وفي العالم العربي... تخاطب الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وفي الشتات عن أحوالهم وانقساماتهم.. تخاطب القيادات وفصائل التحرير، وتُرَاجِع بنود اتفاقيات السلام.. وقد كانت شيرين تجد الكلمات المناسبة لمخاطبة الجميع، وفضح تناقضات الصهاينة والقوى الداعمة لمواقفها.. كانت تملك قدرةً هائلةً على محاكمة صور تراجعنا، وصور تخلِّينا عن قيم التحرير ومبادئه التي لا يحقّ لأحد التخلي عنها، مهما عظمت المصائب وتفاقمت المشكلات ..
استأنس المواطن العربي بصوت شيرين أبو عاقلة، وهي تروي تفاصيل الأحداث الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي
أستعيد، وأنا أُعايِن الرصاصة التي أسقطتها، أحوال الفلسطينيين في القدس وفي القرى والمدن الفلسطينية، وأحوال السجناء الفلسطينيين في الأقبية التي بناها الصهاينة... أستعيد الأحوال العربية، وأنا أعاين صمتها الناطق، أستعيد أشرطة العدوان والاغتصاب والاستيطان والضَّمّ وتزوير التاريخ، وأُعايِن، مثل كلّ الذين عاصروا إنشاء الكيان الصهيوني، وعاينوا الكيفيات التي جرى بها تركيب تاريخ جديد بالحديد والنار، إذ استُعمِلت كلّ الأساليب لإسكات الفلسطينيين والعرب، ودَفْعِهم إلى نسيان أوَّليات المشروع الوطني الفلسطيني. وأتساءل: ما جدوى السلام؟ وما جدوى اتفاق المبادئ؟ وما جدوى إجراءات الحكم الذاتي، أمام كلّ الجبروت الذي تواصل إسرائيل نشره أمام العالم، ليس في فلسطين وحدها، بل في المشرق العربي؟
لم تتوقف المعارك، ولم تتوقف الحروب والهزائم والمقاومات، ولم يتوقّف القنص والقتل والتعذيب... وبجوار ذلك، لم تتوقف الخيانات وأشكال التزوير. تواصلت أجيالٌ من المقاومين والمنتفضين، وبجوارهم تواصلت، أيضاً، أجيالٌ من المتواطئين والخائفين والمطبّعين. وبمحاذاة كلّ ما سبق، تمكَّن الكيان الصهيوني، خلال عقود القرن المنصرم، من رِبح كثير من الوقت ومن الأرض ومن التاريخ، تمكَّن من ذلك كله، مواصلاً قَهْر شعب بأبْغَض الوسائل وأحقرها، ومواصلاً إخلاء القرى والمدن، وقد استخدم، من أجل تحقيق أهدافه، التطهير العِرْقِي والتمييز العنصري، وغيّر أسماء الأماكن، ومارس تزوير التاريخ بالأساطير التوراتية، ليقيم بتوسُّط كلّ ما ذكرنا، دولة الكيان الصهيوني في فلسطين؛ قلب الوطن العربي.
أستعيد كلّ ما سبق، وأنا أسمع هدير القنص فوق الأرض وتحتها، أتصوَّر اقتراب موعد المواجهات الجديدة، القادرة على وقف العدوان وتجاوز حالة الجمود القائمة... يتحوّل صوت شيرين إلى أصواتٍ مجلجلة، فأتساءل: هل اقتربت ساعة المواجهة الكبرى؟