شيخ للأزهر مجتهد ونخبة مصرية شعبوية خطرة

07 فبراير 2022

الشيخ أحمد الطيب في مؤتمر في "الأزهر للسلام العالمي" في القاهرة (27/4/2017/الأناضول)

+ الخط -

بدأت في الأيام القليلة الماضية مكلمة جديدة من مكلمات المجتمع المصري التي لا تنتهي. هذه المرة في هجوم مفتعل على  شيخ الأزهر، أحمد الطيب، باستدعاء مقتطفٍ من حديث له منذ أكثر من عامين في موضوع ضرب الزوج زوجته الناشز. ويمكن تلخيص مجمل هذا النقاش في الاستسهال والسطحية الشديدة في تناول الموضوعات الدينية والاجتماعية المعقدة باستخفاف شديد، حد عدم القدرة على الاستماع أو مشاهدة أي مقطع فيديو لا يتجاوز الخمس دقائق، قبل أن نطلق وابلا من الهجمات الشديدة والعنيفة والاتهامات المعلّبة ضد قيمة وقامة بحجم شيخ الأزهر، على ما له من مواقف استخدمته فيها السلطة الحالية في بداية تأسيسها، ثم بدأ الرجل يبحث عن كيفية الحفاظ على مصالح الأزهر المؤسسية، في سياق صراع صفري تخوضه السلطة السياسية الحالية مع المجتمع، وأية مؤسسة ذات طابع مؤسسي، وتكاد تنتهي كل تلك الصراعات لصالح السلطة السياسية بطريقة أو بأخرى، ما عدا ذلك الصراع مع الأزهر وشيخه الذي يبدو أنه فطن متأخرا لمآرب السلطة التي تؤمم كل خطاب أو مجال يبدو أن لديه مساحة من الاستقلالية، وهو ما فعلته بنجاح مع كل الفاعلين في المجال العام، ومع مؤسسات الإفتاء والأوقاف التي لم تُبد قياداتها أية امتعاضات، بل إنها قيادات معينة بالأساس من السلطة الحالية، بينما جاءت هذه السلطة فوجدت شيخ الأزهر، أحمد الطيب، في منصبه.

يضع شيخ الأزهر الكرة في ملعب السلطة السياسية التي عليها أن تمنع هذا الفعل الذي وصفه الشيخ أحمد الطيب بالمهين والمشين

تحدّث شيخ الأزهر في موضوع ضرب الزوجة، بطريقةِ تؤكد أنه صاحب اجتهاد ورأي جديد فعليا، وهو أمر غاية في الصعوبة في السياق الحالي شديد الاستقطاب والمحافظة. مفاد هذا الرأي أن مسألة ضرب الزوجة ليست فرضاً ولا واجباً ولا سنّة ولا مندوبا ولا أمراً مستحباً، بل هي في نطاق الـ "مباح"، ثم يرتّب على بند "المباح" في الشريعة حكم فقهي يتعلق بنقل الحكم على المسألة من الشريعة إلى الحاكم، وبالتالي من حق الدولة أن تجعل من المباح محظوراً ومُجرّماً، كشأن أي مباحٍ في الشرع يمكن إحالته إلى السلطة، وجعله محظورا بالقانون وسلطة الحاكم. بعبارة بسيطة، يضع الرجل الكرة في ملعب السلطة السياسية التي عليها أن تمنع هذا الفعل الذي وصفه الشيخ أحمد الطيب بالمهين والمشين. وزيادة في وضوح كلامه، كرّر قائلا "لا تعني إباحته طلبه كتصرف من الرجل، واستشهد بحديث خياركم الذي لا يضرب، وبرأي عطاء الذي قال إن الرجل لا يضرب ويتحمّل، لأنه من حقه أن يعدل عن المباح ودعا إلى التحمّل".
وإذا كان هذا الموقف لشيخ الأزهر مفهوما في ظل محاولات بعضهم إلصاق كل العنف الأسري، بتنوع أسبابه، بالدين ونصوصه وشيوخه، وكأن من يريد أن يعنّف زوجته يذهب أولا إلى تلاوة النص الديني، ثم طلب تصريح من شيخ أو مفتٍ لارتكاب فعله الأحمق والمهين. .. ما وقع على عاتق شيخ الأزهر هنا هو إبراء ذمة الدين ونصوصه من هذه الافتراضات السطحية، وتحويل القضية وتحريرها من كونها متعلقة بالدين إلى كونها من أمور الاجتماع التي تخضع لتقدير السلطة السياسية. كما أن الرجل، تشديدا منه في إيضاح موقفه الواضح وضوح الشمس، ساق مثالا على أن الدولة رفعت سن الزواج من 16 عاما إلى 18 عاما، ولم يعترض الأزهر ولا الإفتاء، لأن هذا من صميم المباح الذي للسلطة السياسية وولي الأمر تقييده.

خلاصة كلام شيخ الأزهر أن مسألة مكافحة ضرب الزوجة خرجت من إطار المؤسسة الدينية

غير المعقول ولا المقبول ولا المفهوم هنا هو الاستسهال وسوء التأويل والتحفز ضد كل شيء متعلق بالدين والاجتماع وسوء النيات الذي يجعل الناس تتمادى في سبّ رجل يدافع عن موقفهم بطريقة أكثر تقدّمية مما يحلمون به، وبطريقةٍ تعد ثوريةً في الفكر الديني، من دون حتى أن يتكلف أولئك عناء سماع رأيه، بينما يقتات بعض الإعلاميين وبعض دعاة السلطة السطحيين في مصر، مثل إسلام البحيري، على هذه الخطابات الشعبوية للناشطات، محاولا تشويه صورة عالم جليل ليس عنده من العلم معشاره، تحت دعاوى التنوير. ببساطة، ومن دون تحفز، خلاصة كلام الرجل أن مسألة مكافحة ضرب الزوجة من الأمور التي يخضع الحكم فيها للدولة، وهي خرجت من إطار المؤسسة الدينية التي لم ولن تؤيد اعتداء الأزواج على بعضهم. ومن هنا، إذا كان ثمّة معركة لكم، كقوى نسوية وتيارات مدنية، فهي مع الدولة والسلطة السياسية التي يجب مطالبتها بعمل قوانين تجرّم ضرب المرأة، بل والضرب عموما. وقد قال الشيخ أحمد الطيب، نصا يجب بروزته "أتمنى أن أعيش إلى أن أرى ضرب الإنسان العربي المسلم جريمة يعاقب عليها الضارب".
لا يتخيّل المرء أن عالما جليلا بهذه القيمة، وهذا الرقي الإنساني الرفيع، تستخفّ به بعض الناشطات وبعض شباب "السوشيال ميديا" ممن يقتاتون على قضايا المرأة حد الردح له من ناشطة في فيديو بث مباشر في وصلات انحطاط إلى هذا الحد. المشكلة أن هذه النخب، بهذه العقليات السطحية، لا تعين شيخ الأزهر على مساعدتها في قضاياها، بل تستعديه وتستعدي جمهوره الذي توسعه مثل تلك الوقاحة، ومثل هذا التسطيح للقضايا والاستخفاف بأمور الدين وعلمائه إلى هذا الحد، وهو لا يخدم أي محاولة جادّة لتحييد الدين عن المجال العام من أية زاوية.

قطاع واسع من الاتجاه النسوي المصري النخبوي يحتفي بالعنف، طالما هو موجّه ضد الرجل، ويتشبث قطاع منهن بقضايا تتعلق بمعارضة نصوص دينية صريحة

لا يمتلك المرء الذي يستمع جيدا لموقف شيخ الأزهر من هذه القضية، ويستمع للفيديو المشار إليه بروية، إلا أن يشعر بالامتنان للشيخ الطيب على هذا الجهد وتلك الشجاعة والنزاهة العلمية، وأن يدفع الدولة ومؤسّساتها باتجاه إصدار قانون يحظر ضرب أي مصري بشكل عام ومجرّد، ويشدد العقوبة على من يمارس الضرب على طرفٍ تربطه به علاقة، وهو لسبب ما أضعف منه، أكان ذلك الطرف سجينا أو طفلا أو زوجة أو تلميذا.
وبينما يحصر دعاة التنوير معظم قضايانا، ومنها العنف ضد المرأة، في بعدها الديني، فإن أي باحث مطلع في الاجتماع السياسي يعلم أن أغلب الدراسات المعتبرة لم تصل إلى علاقات شرطية بين الدين والعنف السياسي أو الاجتماعي، بل تأتي هذه القضية في نطاق تزايد معدّلات العنف بشكل عام، والتي ترتبط بشكل كبير بأسباب اقتصادية واجتماعية، حتى في البلدان التي لديها قوانين لمكافحة العنف ضد المرأة، فإن هذا العنف في ازدياد. وهذه ليست مبرّرات للعنف أيضا، وإن كانت مفسّرة إلى حد كبير لتزايد معدلاتهن حتى من الزوجات تجاه الأزواج، وفقا لصفحات الحوادث وتقارير محاكم الأسرة ذاتها. ولكن قطاعا واسعا من الاتجاه النسوي المصري النخبوي يحتفي بالعنف، طالما هو موجه ضد الرجل، ويتشبث قطاع منهن بقضايا تتعلق بمعارضة نصوص دينية صريحة، فقط من أجل الشهرة والبحث عن تمويل لمشروعات بحثية أو روايات وكتابات ركيكة تتناول المظلوميات النسوية من وجهة نظر سطحية، وبأدوات تأتي بنتائج عكسية. وعلى سبيل المثال، وبدلا من دعمهن لحصول المرأة على مواريثها وفقا للقوانين الحالية بشبكات دعم قانوني حقيقي للمستضعفات، بغية التمكين الاقتصادي والاجتماعي في مجتمعٍ لا تحصل الغالبية الساحقة من نسائه على الأنصبة الشرعية، فإنهن يدافعن عن المساواة في الميراث وإلغاء الأنصبة الحالية، وبالتالي يستعدين غالبية النساء أنفسهن، وليس فقط المتعاطفين من الرجال مع تلك المظلوميات الحقيقية للنساء في مجتمعاتنا، ما يجعل داء مصر في نخبة شعبوية متحفّزة ضد المجتمع والدين، وغير قادرة على مواجهة السلطة أو مطالبتها بما عليها من استحقاقات، يتصرّفون على طريقة المنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.