شيخ الأزهر أم شيخ الأسرى؟
كانت المعلّمة الفلسطينيّة تركضُ بحثاً عن النجاة من قطيعٍ متوحّشٍ من المستوطنين الصهاينة هجم عليها في مدرستها، واعتدى على الطلبة والطالبات والعاملين. في تلك اللحظة بالضبط، كان شيخ الأزهر يخطب لمناسبةِ ذكرى المولد النبوي عن حقوق الأسرى، ووجوب "احترام مراكزهم وكرامتهم الشخصية حسب مكانة كل فردٍ منهم".
تحدّث شيخ الأزهر أحمد الطيب 23 دقيقة وبضع ثوان، جلّها كان عن أخلاق الحرب في الإسلام وفقه التعامل مع أسرى العدو، فيما لم تستغرق الزوبعة التي أحدثها في توقيتٍ عجيبٍ وغريبٍ بكلامه عن المفاضلةِ بين الرسالاتِ السماويّة سوى دقيقتين أو أزيد قليلاً، لكنّهما كانتا دقيقتين شديدتي المفعول في قسمة الناس إلى فريقين يقتتلان فكرياً وفقهيّاً، وبالضرورة سياسيّاً، في معركةٍ لم يبردْ وطيسها بعد.
احتلّ شيخ الأزهر "الترند" وحده واشتعلت المنصّات ومواقع التواصل الاجتماعي بالتراشق بين مؤيّدين ما جاء به ومعارضين له، في مناسبةٍ كان من المُفترض أن تجتمع حولها الأمّة، وتتخلّى عن انقساماتها الفكريّة وتشظيّاتها الاجتماعيّة ومعاركها السياسيّة، ولو مؤقتاً، وتجتمع حول قضيّة القضايا، هناك والآن، وأعني المأساة التي أوشكت على إكمالِ عامها الأوّل، وأسفرت عن استشهادِ أكثر من 41250 مواطناً فلسطينيّاً يمثّلون زهاء 2% من عدد سكان قطاع غزّة.
بارع جداً ذلك الذي سلخ المقطع الخاص بالمفاضلة بين الرسالاتِ والرسل وبثّه على أوسع نطاق ليختطفَ الناس من كلِّ قضاياهم الجامعة، ويدخلهم في أتونِ حربٍ، لا تزال مستعرة، فيما لم يتوقف أحد عند الرسائل شديدة الخطورة التي تضمّنتها كلمة شيخ الأزهر، وكأنّ المُستهدف هو ذلك الجدل الذي يمزّق ما هو مُمزّق أصلاً، ويسكب وقوداً إضافيّاً على حريقٍ مذهبي وطائفي مشتعل منذ عدّة أشهر.
يدركُ شيخ الأزهر، كما يدرك كلّ مطّلع على أحوالِ الأمّة هذه الأيّام، أنّ إشعال معركة المفاضلة بين الرسالات لن يؤدّي إلى غير النتائج التي أدّى إليها، وكي لا نُستدرج إلى ميدانِ القتال العقائدي، وننصرف عن المعركةِ الحقيقيّة الأجدر بكلِّ كلمةٍ، وكلّ جهدٍ لنصرة المستضعفين في غزّة سنعتبر أنّ ما ذهب إليه الشيخ هو الرأي السديد، بالنظر إلى أنّه من الضروري، بل من الواجب، أن نتجاهل هذا الاشتباك الذي كان موضوعاً رئيساً في كلّ الدراسات الخاصة بعلم الكلام وفلسفة الأديان والفقه المقارن، علماً أنّ كلّ المقاربات المتصلة بهذا المبحث النظري العميق متاحةً في كتبٍ ومجلدات.
ما يهم هنا هو التوقف عند أهم مضامين الخطبة الطويلة لشيخ الأزهر في لحظةٍ تُذبح فيها غزّة وفلسطين من الوريدِ إلى الوريد، وينتهكُ المسجد الأقصى كلّ يومٍ بأقدام إرهابيي الصهيونيّة الدينيّة، وهو ما كان يفترض أن تكون غزّة هي القضيّة الأساس في الكلمة، غير أنّها من أسفٍ لم يأت ذكرها إلا بمفردةٍ واحدة على لسانِ شيخ الأزهر في سياق حديثه عن قضايا الأمّة، حين قال "وأن تبذل قصارى الجهد للتضامن مع أطفال غزّة ونسائها وشبابها وشيوخها، ومع شعوبنا في السودان واليمن وغيرها".
أما بقية الخطبة فهي حديثٌ مستفيضٌ في فقهِ معاملة أسرى العدو ومفهوم الحرب والقتال في شريعة الإسلام، من دون أن يحدّد بالضبط الجهة التي يوجّه لها حديثه ونصائحه، إذ لم يذكر فلسطين أو مقاومتها، بل إنّه حين تحدّث عن النموذج الآخر من الحروب التي تشهد إبادة جماعية للشعوب، لم يذكر العدوان الصهيوني ولم يستدع حالة غزّة.
بنصِّ عبارات الشيخ الطيب "القتال في شريعة الإسلام لا يباح للمسلمين إلا إذا كان لردّ عدوان على حياتهم أو دينهم أو أرضهم أو عرضهم أو مالهم، أو غير ذلك مما يدخل تحت معنى: "العدوان" بمفهومه الواسع. أمّا القتال نفسه، أو حرب العدو، أو الصراع المسلح، فله في شريعة الإسلام خطر وأي خطر، وله قواعد وضوابط وتشريعات شرّعها الله تعالى!، وطبقها رسوله ﷺ تطبيقاً عملياً، وهو يقود بنفسه جيوش المسلمين في معاركهم مع أعدائهم، وأمر أمته بالتقيد بها كلما اضطرتهم ظروفهم وألجأتهم إلى مواجهة عدوهم".
ثم يفصّل أنّ صورة القتال في الإسلام لا تكتمل بدون الإلمام بصورةِ "الأسرى" في الحروب الإسلاميّة، لافتاً إلى أنّ فقه "الأسير" في الإسلام يدور على أمرين، حدّدهما القرآن الكريم في قوله تعالى: "فإما منّا بعد وإما فداء"، والمنّ على الأسير هو إطلاق سراحه وتحريره بغير عوض ولا فدية، أما فداؤه فهو تحريره وإطلاق سراحه مقابل فديةٍ يدفعها هو أو تدفع له، مبيّناً أنّ الأسير الذي يأسره المسلمون من جيش العدو يحرم على المسلمين قتله، كما تدل الأحكام الفقهية على وجوب إطعام الأسير، ووجوب الإحسان في معاملته، وحمايته من الحرِّ والبرد، وتوفير ما يكفيه من كسوة وملابس، وإزالة كلّ ما يصيبهم من ضررٍ، ووجوب "احترام مراكزهم وكرامتهم الشخصية، حسب مكانة كل فرد منهم".
لا يحيل هذا الانشغال الشديد بقضيّة الأسرى في هذا التوقيت إلّا إلى قضيّة حفنة أسرى العدو الصهيوني لدى المقاومين في غزّة، الذين لم يثبتْ أنّهم قد عوملوا بسوءٍ أو حُرموا من طعامٍ وكساء أو قتلوا على يد آسريهم، إذ لا يردّد هذه الأكذوبة سوى الإعلام الصهيوني والمنخرطين في الضغطِ على المقاومة لإطلاقهم، وبالتالي، يبدو التركيز على قضيّة معاملتهم أشبه برسائل مُبطّنة لا يستفيد منها إلا العدو، الذي لم يذكر الطيب اسمه مرّة واحدة.
حدّثنا شيخ الأزهر عن منهجِ نبي الإسلام في التعامل مع أسرى العدو، لكنّه تجاهل أن يحدّثنا عن أمّةٍ تركت مسجدها الأقصى المبارك منتهكاً ومهاناً، وأغمضت عينيها عن احتلال أرضٍ لها وشعبٍ من شعوبها منذ ثمانية عقود، وبدلاً من أن تبحث عن توحيد الجهود ورصِّ الصفوف لتحرير الأرض والبشر والمقدّسات، راحت تعرض نفسها على المحتل ورعاته سعياً لتحقيق أكبر استفادة مُمكنة من التطبيع والتعاون معه، اقتصادياً وسياسياً.
كنّا ننتظر إجابات من شيخ الأزهر عن أسئلةٍ مهمّةٍ: هل تُعتبر إسرائيل دولة طبيعية ذات وجود طبيعي في المنطقة؟ هل ترى أنّ الشعب الفلسطيني واقع تحت اعتداءٍ مستمرٍ منذ أكثر من 76 عاماً؟ هل تنظر إلى أنّ العمل المقاوم الفلسطيني، سواء كان ابتداءً بالفعل أو ردّاً لفعل العدو هو حقّ مشروع وجهاد بالمفهوم الإسلامي وكفاح ونضال بالمعنى السياسي؟ والسؤال الأهم: هل هذا كلّ ما لديك لتقدّمه إلى شهداء غزّة وجرحاها ونسائها الثكالى؟
كنّا نتمنّى أن يحدّثنا شيخ الأزهر عن عار الخذلان الذي يلفنا جميعاً، بيد أنّه ألقى في طريقنا ألغام المفاضلة، أو المشاغلة، لا فرق.