شواهد على عدالة مؤجلة في لبنان

06 مايو 2022

آثار دمار للإنفجار في مرفأ بيروت (3/12/2021/Getty)

+ الخط -

لطالما سارعت القوى الحاكمة في لبنان، والقابضة على مختلف مؤسسات الدولة وأجهزتها، وفي مقدمتها مجلس الوزراء، إلى محاولة تمييع القضايا من خلال إزالة كل الحقائق والشواهد المرتبطة بها. من هنا يمكن النظر إلى قرار الحكومة هدم مباني أهراءات القمح، أي الشاهد الأساس على انفجار المرفأ الذي دمر نصف العاصمة بيروت، فهي تتحجّج بهشاشة البناء، وإمكانية سقوطه المفاجئ والسريع عند هبوب أي عاصفة قوية (كما برّر وزير الاقتصاد أمين سلام) لكي تزيله. علما أنه ليس هناك من دراسة علمية ترجّح الأمر (بما فيها دراسة "خطيب وعلمي" التي تتسلح بها الحكومة)، وهو ما يؤكده أيضًا مساعد عميد كلية الهندسة في جامعة بيروت العربية يحيى تمساح، (في مقابلة مع منصة "ميغافون" اللبنانية). يقول إن تضرّر الجزء الشمالي من مباني الأهراءات وانحناءه لا يعنيان إمكانية سقوطه الفجائي كما تزعم الحكومة اللبنانية، بل إن أي سقوط يحتاج إلى وقت كثير، وتشقّقات وتفسّخات كثيرة قبل ذلك. ويزيد تمساح على ذلك، فيفترض أنه حتى لو كانت هناك ضرورة تستدعي إزالة جزء من المبنى، فهذا لا يبرّر إزالته بشكل كامل لأنه ليس مبنى واحداً متصلاً، بل هو منشأتان جنوبية وشمالية. هذا من دون الدخول في تقنية الهدم، إن جرت، والتي لا بد أن تذهب باتجاه تفجير ما تبقى من المبنى، نظرًا إلى كلفة طرق الهدم الأخرى، بالإضافة إلى الوقت الطويل الذي تحتاجه، فهل تسمح الحالة النفسية عند اللبنانيين بانفجار جديد سيذكّرهم بالمأساة والخوف والذعر الذي عايشوه؟

لم يحاسب أي من أمراء الحرب الذين يتحمّلون مسؤولية مباشرة عن تدمير البلد وتقويض أواصره الاجتماعية

ليس سلوك السلطات اللبنانية وليد المصادفة، إذ هي ليست المحاولة الأولى من نوعها الهادفة إلى إزالة الشواهد بغرض طمس الحقيقة والتفلت من المسؤولية والعقاب. بل سبقتها محاولات عدة، منها التي بدأت مفاعيلها بالظهور بعد ثلاثة أيام من اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، حين حاولت الحكومة حينها تنفيذ قرار يقضي بردم الفجوة في الطريق والمتأتية عن الانفجار، وذلك قبل أن تجفّ دماء الضحايا، وحتى قبل أن يتكشّف عدد المصابين، وقبل أن يسلك التحقيق مجاريه ويجرى المسح الكامل للمنطقة، ومعرفة كل حيثيات التفجير… إلخ. وكأن الأمر مجرّد حادث عابر لا يستدعي، وليس بحاجة، لدراسة كل المعطيات وتحليلها بهدف الإمساك بخيوط تقرّب من إمكانية معرفة الحقيقة.

لا تقف صولات السلطة اللبنانية وجولاتها الهادفة إلى طمس الحقائق والتفلت من المسؤولية عند هذا الحد، فهي ذاتها كانت قد أعفت نفسها من المسؤولية المترتبة عن الحرب الأهلية، فأمراء الحرب الذين يتحمّلون مسؤولية مباشرة عن تدمير البلد وتقويض أواصره الاجتماعية، والمسؤولون عن قتل ما يقارب مئتي ألف مقيم على الأراضي اللبنانية وتهجيرهم وخطفهم وإخفائهم وإعاقتهم، عفوا عن أنفسهم وأعادوا استلام السلطة وتقاسم مغانم ما تبقّى من الدولة، لا بل سمحوا لأنفسهم الإشراف على "بناء" الدولة ومحاصصتها بعد الحرب، فمارسوا نوعًا آخر من أنواع التهرّب من المسؤولية من خلال تفصيل قوانين تحميهم، كان من أبرز نتائجها الاستمرار بسلوك استباحة الدولة من دون حسيب أو رقيب، ما أدّى إلى انهيار المجتمع والدولة الذي نشاهده اليوم.

مبنى أهراءات القمح أكبر وأبلغ شاهد وتذكار على جريمة بحقّ بيروت وناسها

إذن، في الشكل، لا مجال لرؤية قرار إزالة مباني الأهراءات وكأنه مجرّد قرار خاطئ، أو متسرّع، بل إن السياق يستدعي رؤيته أنه محاولة جديدة للتفلت من المسؤولية والعقاب المتأتي أولًا عن كارثة بحجم انهيار البلد، وثانيًا عن حدثٍ جللٍ بحجم انفجار المرفأ الذي لم يُسمح للقاضي الشروع في تحقيقاته والاستماع إلى أقوال المسؤولين المباشرين وشهاداتهم عن ملف المرفأ خلال تلك السنوات، وهو أقل الإيمان. بل شاهدنا إمعان بعض أطراف السلطة في عرقلة التحقيق بأشكال مختلفة، من شرذمة أهالي الضحايا، وصولا إلى تهديد القاضي طارق بيطار بـ"القبع" في تصريح مسؤول وحدة التنسيق والارتباط في حزب الله وفيق صفا من داخل قصر العدل. كما شاهدنا تكاتف معظم قوى السلطة رفضًا للمطالبة برفع الحصانات، ما يحول دون الاستماع إلى شهادات النواب والوزراء والرؤساء، وتغطية قادة الأجهزة وكبار الضباط، الذين كانوا يعرفون بأمر نترات الأمونيوم، ولم يتخذوا أي إجراء يحمي المدينة من كارثة محققة.

يُحدِث هذا السلوك المتمادي ريبةً كثيرة عند المتابعين، وعند عموم الشعب اللبناني. أن تعمل على إزالة الشاهد الأساس قبل أن تصدُر نتيجة التحقيق، وقبل أن نعرف طبيعة التفجير، لا بل قبل أن يسلك التحقيق مجاريه الطبيعية والروتينية بعد الاستماع إلى من يجب الاستماع إليهم لمعرفة كل التفاصيل المتعلقة بمسرح الجريمة، فهل نحن أمام قضية ستُطمس كما قضايا كثيرة قبلها؟ أم أننا بانتظار عدالة متأخرة، مؤجلة إلى حين؟ لكن، فوق هذه وتلك، يبقى أن قرار الحكومة إزالة مباني الأهراءات لتضع مكانها نصبًا تذكاريا يشهد على هول الكارثة (علمًا أن الإمكانية متاحة لتدعيم الجزء الجنوبي بكلفة مالية قليلة نسبيًا، بالإضافة إلى إمكانية تدعيم الجزء الشمالي ولو بكلفة أعلى، كما يؤكد تمساح) هو قمّة التمييع، إذ تتقاطع كل الآراء، العلمية وغيرها، على حقيقة أن مبنى الأهراءات هو أكبر وأبلغ شاهد وتذكار على جريمة بحق بيروت وناسها.