شهيدتنا شيرين: عميدة المحاربين العرب
كنت أظن أن استشهاد المحاربة شيرين أبو عاقلة هو القضية التي لا تقبل القسمة على موقفين، أو لا يخالطها أدنى جدلٍ في معنى الشهادة الحقة ومبناها في المعركة الحقّة، لولا أن نفرًا من المتخصّصين في إحراق كل ما هو مورق ومثمر قد حضروا سريعًا، بكامل أدوات تفريغ كل لحظةٍ من جلالها وجمالها.
على مدار 25 عامًا منذ سطوعها الأول في فضائنا العربي، لم تخلف شيرين أبو عاقلة موعدًا، لم تتخلف عن معركة، لم تترك الصفّ الأول من الجبهة، مع المقاومين والمرابطين والمناضلين والمجاهدين، دفاعًا عن فلسطين والأقصى والمهد، دفاعًا عن كرامتنا جميعًا.
ربع قرن من القتال المتواصل، والمقاومة المتصلة، والإيمان الذي لا يهتزّ بالأرض وربّ الأرض وجدارة أصحاب الأرض بالحياة (لا أظن أن هناك محاربًا عربيًا، نظاميًا في جيش، أو فردًا في مقاومةٍ شعبيةٍ، أمضى هذه المدّة في ميادين الكفاح) حتى قضت نحبها في الصف الأول على جبهة القتال، تذود بجسدها وعدستها وصوتها عن مخيم جنين، تحمي السكان العزّل من اجتياح الأعداء الهمَج، حتى استطاعت الرصاصة الشرّيرة الوصول إلى المنطقة المكشوفة تحت أذنها، فتفجر ينبوع دم طاهر ونقي يرسم على أرض جنين خريطة للكفاح.
هذا المشهد، وهذه النهاية، هل هناك من يجادل في أنهما أسمى مراتب الشهادة؟ نعم، هناك من جادل بابتذال وقرّر، ببذاءةٍ لا يعرفها دين ولا تقرّها أخلاق، أن يغرس مخالبه في كل من يعتبرها شهيدة، ويدعو الله لها بالرحمة، وأن تكون في الجنة مع الشهداء الصادقين.
السرعة الشديدة في فرض هذا الهراء القبيح موضوعًا للاشتباك، قبل أن تجفّ دماء الشهيدة، تشي بأن الأمر ليس مجرّد ضيق أفق من مجموعات أو أفراد غابت عنهم الكياسة والقدرة على الفهم، ذلك أنه فضلًا عن سرعة إشعال الجدال كانت هناك دقّة ومهارة في تنظيمه وإطلاقه على ذلك النحو من التدرّج في خطف الجماهير من الغضب ضد العدو، الذي لا عدو غيره، إلى تلك الغابات الفسيحة المزروعة بما أسميها "داعشية ناعمة" هي أكثر عطاءً وخدمة للعدو من الداعشية الخشنة، الصريحة، التي لم تطلق رصاصة واحدة على العدو الصهيوني، بينما كل ذخيرتها موجهة إلى صدور أبناء هذه الأمة، من جنودٍ مسلحين ومواطنين عزّل، مقدمةً خدماتٍ هائلة إلى من يحتلون أرضنا في فلسطين، ويستبدّون على شعوبنا في الأقطار العربية.
كنت أحاول عبثًا لفت أنظار السادة الممسكين بمفاتيح الجنة والنار، القيّمين على خزائن رحمة الله، إلى أن من النذالة أن يكون رد الفعل على مقتل من أفنى عمره دفاعًا عن أقدس قضايانا حرمانه من لقب الشهيد، ومصادرة الدعوات له بالرحمة، فأجد ردودًا من عينة: راجع عقيدتك .. لا تبع دينك .. إلى آخر هذه المفردات التكفيرية الملساء، حتى انتشلتني من اليأس والكآبة كلماتٌ من متابع صديق، من أهل القدس المحتلة، كان أول من أطلق على مولودٍ له اسم الرئيس الشهيد محمد مرسي، ردًا على من تركوا كل شيء، وتفرغوا للجهاد كي لا يقال على شيرين أبو عاقلة شهيدة.
يكتب الصديق طه أبو عمر، وهو فلسطيني مسلم مقدسي مرابط: من منا كان يعرف ديانة البطلة شيرين ابو عاقلة قبل إعدامها؟ رغم كوني فلسطينيًا، وكونها ابنة الأم الوطن فلسطين، ونراها كثيرًا خلال تواجدنا في مدينة القدس، باب عامود، باب الأسباط، وعلى جميع محيط أسوار المسجد الأقصى المبارك، فَلَم نسأل يومًا عن ديانتها بسبب مواقفها الجبارة البطولية التي تتجسَّد بصفات المسلم الحر.
وربك يصطفي ويختار شيرين أبو عاقلة ذات الديانة المسيحية، لكن الله اختارها في معركة الشرف، بينما البعض يعيش كما تعيش الأنعام.
خطابات دينية غاية في البؤس، يتحفنا بها أصحاب الأفكار "الداعشية" منذ صباح اليوم، يفتقدون للَّباقة، باسم الانتصار للعقيدة. .. قبل أن تناظر باسم العقيدة، وَتُنَفِّر من حولك من الإسلام بالترهيب، اكسبهم بالترغيب، فهذا ليس الوقت للنقاش بجواز الرحمة من عدمها، في الوقت الذي قُتِلَت به من تدافع عنك، وعن أرضك المسلوبة بإيصال الصوت والصورة من قلب الحدث، تحت النار وفوق النار ووسط النار.
فالأولى بك أن تُعلن البراءة من الدماء التي أريقت، على يد مغتصبيك. كل المواقف يقبل فيها الفصال والنقاش بها حتى الانحياز بالتمثيل للكنيست التي أرفضها، لكن الدماء هي الأمر الذي لا يقبل النقاش أو الجدل أو العذر بالجهل.
لست مفتيًا، لست شيخًا وخطيبًا على منابر المساجد، لكن من اللَّباقة والذوق أن لا نُتيح لأنفسنا وكأنَّنا نملك مفاتيح الجنة والنار، في ظروف كهذه التي أُعدمت بها المناضلة، بل المقاومة شيرين أبو عاقلة. .. قليلٌ من الإحترام، فإن لم تستطِع أن تمتلك بعضًا من الذوق فأمسك لسانك. .. شيرين ومن معها كان لديهم موضوع وهدف، إنما أنت فشعر إبط لا قيمة لك، ولا موضوع يدفعك لموقفٍ كهذا. .. أعلن ندمك قبل أن يتبولوا على قبرك.
انتهت سطور الصديق المقدسي، وبقيت أتابع شظايا ذلك الاستبسال النذل من أجل تكفير الشهيدة، واتهام كل من يدعو لها بالرحمة بمخالفة شرع الله، وأكرّر: سوف أدعو بالرحمة لهذه الشهيدة المسيحية، التي ماتت على جبهة الحرب دفاعًا عن فلسطين والقدس والأقصى وبيت لحم، وعن الإسلام والمسيحية والعروبة والإنسانية، وأبتهل إلى الله أن يرزقها الجنة.