شهر التجرّد أم الاستهلاك؟
بدلاً من أن يكون رمضان المبارك الكريم شهر العودة إلى الذات أصبح بالنسبة لمسلمين كثيرين شهر الخروج من هذه الذات نحو دائرة تتوسّع كثيراً لتضمّ العالم كله في انشغالات كثيرة بالآخرين وشؤونهم حسداً وطمعاً وغيرةً ومقارنة.
بدلاً من أن يكون شهر التواضع والصبر والقدرة على التحمّل والاكتفاء بأبسط ملامح العيش، أصبح شهر رمضان للأسف الشهر الاستهلاكي الأول في حياة العائلات المسلمة.
بدلاً من أن يكون شهر الوعي بقيمة المرء في كونه الكبير، وبقيمته في مجتمعه وفي أسرته ومع نفسه أيضاً، أصبح فرصة للتخلّي عن أي وعي قديم بتلك القيمة العالية فردياً وجمعياً أيضاً.
بدلاً من أن يكون شهر التخفّف والتجرّد من كلّ ما يثقل الجسد قبل أن يثقل الروح، أصبح لدى كثيرين الشهر الثقيل في الميزانية وفي التكاليف وفي التمظهرات الاجتماعية الجديدة وغير القابلة للتكرار ذات الطبيعة الاستهلاكية لدى الكبار والصغار.
بدلاً من أن يكون شهر العبادة الخاصة والتفكّر والتأمّل في تصاريف الحياة بروحانية تليق بمكانته الدينية ومعناه القرآني العظيم، أصبح شهر العبادة وفق جداول مرسومة سلفا للانتهاء منها كواجب وحسب، بلا إحساس أو شعور خاص.
أما تكاليف رمضان المادية فقد سلبته ما تبقّى له من معنىً في المفهوم العام للأسف وجعلته استحقاقاً مادّياً مكلفاً في كل شيء تقريبا. بل وجعلته موعداً سنوياً للتجدّد المادي في ما نستخدمه من أثاث وأوان منزلية وملابس وأدوات زينة وغيرها مما لا علاقة له بالتكليف الديني، ولا حتى الموروث الاجتماعي المتعلق بهذا الشهر الفضيل.
كثير من هذه الأسر أصبحت تعمل لشهر رمضان ألف حساب قبل قدومه تحسّباً لما يفرضه عليها الواقع الاجتماعي من مصاريف إضافية، وبدلاً من الاستعداد لمضاعفة العبادات والنوافل فيه، نجد أن هذه الأسرة تكلّف نفسها تكاليف لا تكاد تتحمّلها الميزانية الشهرية كباقي شهور العام.
لا أتحدّث عن الطعام والشراب وحسب، رغم أن هذا البند تحديداً أصبح في رمضان يستهلك معظم ميزانية الأسرة في الشهر الكريم، مع أن قليلاً منه فقط هو ما تستهلكه الأسرة، وأقلّ منه هو ما يذهب لمساعدة الفقراء... أما معظمه فللأسف يذهب إلى القمامة التي تتضخّم في هذا الشهر تحديداً بشكل ملحوظ. ورغم أن هناك مجتمعات وجمعيات خيرية فطنت لهذا الأمر وأنشأت ما تسمّى بنوك الطعام وحفظ النّعمة، إلا أنها تعدّ نقطةً في بحر، وكثير منها تفتقر للوسائل العملية السريعة للحاق بالطعام (المطهوّ) وجمعه والمحافظة عليه من التلف ثم توزيعه لمن يحتاجه من الفقراء وغيرهم. ثم إن أسراً كثيرة للأسف لا تحبّذ التعامل مع هذه الجمعيات، وتجد أن الأسهل لها وللعاملين لديها هو التخلّص مما يفيض عن حاجاتها اليومية من الطعام بسرعةٍ في القمامة. وهذه القمامة تذهب إلى العدم في أفضل الأحوال، إلى تراكم مسببات التلوث والأمراض وغيرها، فحتى اللحظة، لا توجد سوى مشروعات تجريبية لا تكاد تُذكر لإعادة تدوير كثير من محتويات القمامة في بلداننا كما يحدُث في البلاد الغربية. أما ما عدا الطعام من فوائض استهلاكية فكثيرٌ جدا. ويتفنّن السوق في صناعة المناسبات من داخل المناسبات في سبيل استدراج الفرد والأسرة إلى مزيدٍ من الصرف. فكل يوم تقريبا هناك تقليد رمضاني جديد لا علاقة له بمعنى رمضان في الوعي الديني، لكن السوق يتخذه حاضنة للصرف المادي وحسب.
لا أريد أن أذكّر بظروف من لا يستطيع العيش بهذا الترف المظهري الذي وجدت الأسر المسلمة نفسها خاضعة له في رمضان، فهذا لا يخفى على أحد، وهو، رغم كل شيء، لا ينبغي أن يكون السبب في أهمية العودة إلى روحانية الشهر الكريم وتواضعنا نحن المسلمين فيه... ولكن نظرة إلى المآسي التي نتماسّ معها بالشعور بعيداً عن بلداننا ربما تعيد لنا ولو قليلاً من ضرورة التفكّر بمعنى رمضان في الوجدان.