شهداء للتصدير

16 أكتوبر 2022
+ الخط -

لا أحد في وسعه أن يزعم وجود تضادّ بين خبرين، تناقلتهما الأنباء في اللحظة ذاتها. ينقل الأول نبأ ارتقاء شهداء ومقاومين واقتحامات واجتياحات وحصارات صهيونية مخيمات فلسطينية، والآخر يتحفنا بمعلوماتٍ تجاريةٍ مفادها زيادة حجم الواردات الأردنية من إسرائيل خلال الثلث الأول من العام الحالي 2022، بنسبة 17% عن الفترة نفسها من العام المنصرم.

ربما كانت الغرابة تكمن، فقط، في أنّ الخبريْن حملا سمة "عاجل"، وهي سمةٌ لا تناسب إلا النبأ الأول الذي يتحدّث عن عدد الشهداء. أما الثاني فلا يستحق هذه "الميزة"؛ لأنه بات في حكم الأنباء التي أكل عليها الدهر وثمل، بعد أن طقّ في جبين الأمة عرْق الخجل.

لا أدري من كان وراء نشر الخبر الثاني، وإن كنتُ أرجّح أنّ المصدر رسميّ بامتياز، يحاول أن يتحدّث عن "إنجاز"، في زمنٍ عزّت فيه الإنجازات الحكومية على ما يبدو، فلم تجد الحكومة من "بشرى" تغدقها على الشعب غير "زيادة حجم الواردات الأردنية من إسرائيل"، انسجاماً مع وعد رئيس الوزراء قبل شهرين بأنّ "أجمل أيام الأردنيين باتت قريبة". لكنّ من سوء طالع الحكومة أن هذا الخبر تزامن مع خبر شهداء جنين، عندما كان الاحتقان الشعبي في ذراه، فامتلأت شاشات الهواتف والتلفزيونات بالبصاق لقاء هذه الاستهانة بمشاعر الناس الذين تغلي دماؤهم غضباً على المجزرة الدائرة على بعد كيلومترات من حدودهم.

بات واضحاً أنّ أحداث فلسطين تدور في كوكب آخر بالنسبة لأنظمة الاندلاق على إسرائيل، بينما تتابع الشعوب تحديثات الأنباء العاجلة، التي يزداد فيها عدد الشهداء مع كلّ كبسة تحديث، على غرار ما حدث في جنين أخيراً، فالشهداء بدأوا بواحدٍ في الصباح، ثم تزايد العدد مع كلّ نبأ عاجل. وفي ذلك مفارقة بين زمنين على جغرافيتين كان يفترض أن تكونا جغرافية واحدة، لولا الانكفاء القُطْري الذي بنى جدار فصلٍ بين العرب أنفسهم يفوق جدار الفصل العنصري الذي بناه شارون، فعلى الجانب الغربيّ من الجدار أناسٌ يحسبون الزمن بعدد الشهداء، والسجناء، والمطاردين، وبعدد الرصاصات التي تنهمر على رؤوسهم يوميًّا، فيما يحسب العرب شرقيّ الجدار زمنهم بحجم عدد الانحناءات التي يبذلونها لنيل رضا إسرائيل، وبحجم زيادة الواردات منها، فيما يحسبها آخرون بارتفاع عدد الزيارات المكوكية لمسؤولين عرب إلى تل أبيب، وبحجم زيادة عدد الدول المطبّعة مع إسرائيل.

غربيّ الجدار يتسارع الزمن ويتكثّف بالشهداء ومقاومة المحتل في جنين والقدس، وغزة، وانتفاضات الضفة، وحراك شعبٍ لا يعرف اليأس، ومع كل عملية "تحديث" تنقلب الصورة، من شهيد يسقط الراية، إلى مقاومٍ يعاود حملها، ويستأنف المسير، ومن شجرة زيتون تقطع، إلى غرسة زيتون جديدة، ومن قذيفةٍ تسقط على غزّة إلى صاروخ ينطلق من غزّة، ومن اغتيال مقاوم إلى ولادة عشرة مقاومين، ومن اقتحام جديد للغزاة، إلى شابٍّ في مقتبل العمر يفرض حظر التجوال على تل أبيب عشر ساعاتٍ كاملة.

وفي المقابل، يتوقف الزمن شرقيّ الجدار على صورة "عربية" واحدة، هي صورة الزعيم الأوحد، والمفرد، ولا تغيير أو تطوير إلا في تسريحة الشعر، ولون البذلات، وتبديل الزوجات، وأسفار الاستجمام والترويح، وتضخّم الأرصدة الشخصية في البنوك، وتفاقم عدد القواعد الأميركية في بلاد العرب. ولو كانت نصائحنا إلى شركات الأجهزة الخلوية تؤخذ بعين الاعتبار، لكانت قبلت بإزالة زرّ التحديث عن الأجهزة المصدّرة خصيصاً للعرب شرقيّ الجدار، لأنّ الصور ثابتة جامدة، والأحداث مكرورة مدوّرة كالنفايات.

هنيئاً للعرب تزايد حجم وارداتهم من إسرائيل، غير أنّ جلّ ما أخشاه ألّا تجد إسرائيل شيئاً تصدّره لهم، غير الشهداء الذين ترتفع أعدادهم على مدار اللحظة، أو غير جنودها وقذائفها، وشهوتها التي لا يحدّها تطبيع أو "سلام" نحو مزيد من الاحتلال.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.