شكسبير في أفغانستان

15 ابريل 2016

رسم شكسبير (1564- 1616) يقرأ "هاملت" أمام أسرته (Getty)

+ الخط -

قبل أن يبدأوا مشاهدة عرض "هاملت" على خشبة مسرحٍ، أقيمت في ملعب تنس للسفارة البريطانية في كابول، قرب مقرٍّ لحلف الناتو، أُعطي النظّارة، وهم أجانبُ وطلابٌ أفغان، تعليماتٍ بشأن ما عليهم فعله إذا حصل طارئ أمني، في أثناء متابعتهم كآبة أمير الدنمارك وصيحاته، وتخطيطه لقتل عمّه قاتل والده، وتباريح حبّه أوفيليا. وعلى ما أُفيد، فإن هجوماً صاروخياً كان قد تعرّض له، في اليوم السابق، موقع قرب هذا المكان الذي اختير لعرض شركةٍ بريطانيةٍ تجول في عدة دول لتقديم "هاملت"، استدعى تحسّباً مضاعفاً. وربما، جاز لأحدنا أن يفترض أن مأساة صاحبنا، البطل الشكسبيري ذاك، ليست هي الفعل المسرحي في الواقعة، وإنما التفرّج عليها، في "ظل إجراءاتٍ أمنية مشددة"، و"وسط صخب طائرات الهيليكوبتر المحلقة فوق مقرٍ لحلف الناتو"، على ذمة "رويترز" التي طيّرت الخبر من هناك، ووصفت الجمهور بأنه "مرتعش".

وكان قد نشر، قبل أسابيع، أن "هاملت" عرضتها الفرقة نفسها (ربما)، في مخيم لاجئين يمنيين في جيبوتي، "وفي ظروفٍ خطرة وغير صحية". وليس في الوسع أن يخمّن واحدُنا ما انتاب هؤلاء من مشاعر تجاه ما كان يُكابده قُدّامهم أمير الدنمارك الشقي بقلقه، والمتوتر والمكتئب والمتوجس، ولا أن يحدِس بما راودهم، وهم الحزانى المكلومون، لمّا سمعوا هاملت يصيح: أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال. ولكن، مؤكَّدٌ أن لا صلة لسؤالهم في حياتهم بمؤامرةٍ في مملكة الدنمارك، طافت في مخيّلة شكسبير قبل أكثر من أربعمئة عام.

ليست هذه المرّة الأولى التي يحضر فيها شكسبير في أفغانستان، ففي أرشيف هذا البلد، لمّا كان بلداً آمناً ونظامه ملكي، أن المسرح القومي في عاصمته كابول كان يستضيف عروضاً مسرحيةً من دولٍ قريبة وبعيدة، وأن حصّةً وازنةً كانت لشكسبير في الأثناء. وكان لافتاً أن عودةً طيّبة لفن المسرح وعروضه في أفغانستان لوحظت فور إطاحة حكم حركة طالبان، وكانت "روميو وجولييت" لشكسبير من عروضٍ قدّمت في مسرحٍ نسائي هناك.

ولمّا كان العام الجاري هو الذكرى الأربعمئة لوفاة الكاتب الإنجليزي الأشهر، فإن استعاداتٍ متجدّدةً ستنشط في العالم لمسرحياته، وهي التي عبرت إلى لغات الدنيا، وقدّمت على آلاف المسارح، وذلك كله يجعل شكسبير الذي مات عن 52 عاماً، وعن 38 مسرحية، وعن أشعار كثيرة، كاتباً كونياً، واسماً فريداً في فضاء الإبداع الإنساني. وهذا طالبٌ أفغاني، يدرس المسرح، لا تسعُه الفرحة بمشاهدة "هاملت" في بلاده، وإنْ على مقربةٍ من "الناتو"، وفي ملعب تنس. ولم نكن، نحن العرب، أقلّ من غيرنا من شعوب الأرض في معايشة شكسبير، فتمصّرت أعمالٌ له غير قليلة، في السينما والمسرح والتلفزيون، واتكأت عليها تمثيلياتٌ ومسرحياتٌ وأفلامٌ في غير بلد عربي، وهذه هي المحنة السورية الماثلة يستوحي منها فنانون ومخرجون أعمالاً تنبني على تراجيدياتٍ شكسبيرية، وقد عرضت إحداها، أخيراً، في مخيم الزعتري.

ومن غريب أمر شكسبير الذي حلّ بطله "هاملت" ضيفاً في كابول، الأسبوع الماضي، أن دارسين، بعضهم مرموقون، يشكّكون بوجوده، وآخرون يعتبرونه كاتباً منتحَلاً، ويجتهدون أنّ غيره من كتب النصوص التي نسبت إليه. وهذا أستاذي، كمال أبو ديب، يدعو (أو يطلب) إلى إعادة درس شخص شكسبير بعينٍ أخرى، ويسأل: هل كان عادياً في إنجلترا القرن السادس عشر التي لم تكن قد أصبحت امبرطوريةً أن يملك شاعرٌ منها كل تلك المعرفة التي تؤهله لكتابة نصوصٍ تدور وقائعها في مصر وسورية وإيطاليا وغيرها؟ طاف الكاتب الشهير في دواخل البشر، الملوك والعبيد والأغنياء والفقراء. كتب عن الحب والخيانة، عن الحروب، عن كل ما يمثل للإنسان أن يكون إنساناً، بحسب واحدٍ من مئات دارسيه. يبغضُه الإسرائيليون، ويعتبره أميركيون لاسامياً، بسبب اليهودي شيلوك في "تاجر البندقية"، فيما الرجل كان عابراً للأمم والحضارات والثقافات، ومن دلائلَ جديدة على ذلك أن بطله هاملت يثأر من عمّه قاتل أبيه الذي تزوّج أمه .. في ملعب تنس في كابول.

 

 

 

 

 

دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.