"شقاوات" التواصل الاجتماعي
ربما لا يجادل أحدٌ في أن مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت لكثيرين إبراز الطاقة العدوانية والتنمّر المخبوء في دواخلهم، خصوصاً مع إمكانية تغييب الهوية الحقيقية لصاحب الحساب الشخصي في مواقع التواصل، فيأمن من العقاب أو التبعات القانونية لإساءاته. هذا طبعاً في بلدٍ يمكن أن يطبق لوائح وقوانين خاصة بالاعتداءات داخل الفضاء الإلكتروني. ولكن، ماذا نفعل إن كان "الاعتداء" هو سياسة إعلامية ممنهجة تقوم بها أحزاب وتيارات سياسية أساسية، داخلة في تشكيل الحكومة والبرلمان؟
أصبح معروفاً في العراق أن الأحزاب الرئيسة و"الكبرى" تعتمد على الذراع الإعلامية في خوض حروبها داخل فضاء مواقع التواصل، وتنفق في سبيل ذلك أموالاً طائلة، تُصرَف، بالدرجة الأساس، على مدوّنين يملكون حساباتٍ مزيّفة بالعشرات، ويمكن لهم أن يشنّوا في نهار واحد حملة داخل مواقع التواصل الاجتماعي ضد "هدفٍ" ما، وتتحوّل منشوراتهم العدوانية إلى تريند في ظرف ساعات.
اصطلح على هذه الحسابات المزيّفة تسمية "الجيوش الإلكترونية"، وصار السياسيون ينفقون عليها، كما قلنا، آلاف الدولارات، ويروْنها وسيلة انتشار أفضل من الإنفاق على وسائل الإعلام التقليدية من صحف وإذاعات. وما سوى المستوى السابق هناك مستوى آخر، عمادُه تغريداتٌ وتدويناتٌ لصحافيين أو معلقين سياسيين معروفين، ومحسوبين على جهة سياسية معيّنة، يكتبون آراءهم، فتسارع الحسابات المزيّفة إلى رفعها في التريند، ومشاركتها عشرات وربما مئات المرّات، فتظهر هذه التغريدات والكتابات على أوسع نطاق ممكن.
من الممكن طبعاً عدّ هذه الوسيلة نوعاً من الدعاية والإعلان، أو أسلوباً جديداً يتواكب مع معطيات العصر لنشر الآراء والأفكار السياسية، حتى وإن علم المتابعون العاديون أنها دعايات مدفوعة الثمن، ولا تمثل وجهات نظر مستقلة لأصحابها ... ولكنها، في أكثر الأحيان، تستثمر لغاياتٍ خبيثة، للتسقيط وبثّ الشائعات والأكاذيب، والأخبار المغرضة، والتحريض، وتسبّبت، بسبب عملها المتصاعد في السنوات الأخيرة، في بثّ جو من العدائية والتنمّر في مواقع التواصل الاجتماعي العراقية، حتى باتت البذاءة مألوفة ولا تثير حفيظة أحد، وغدت أسلوباً في الحوار والتراشق بالاتهامات، وصار من الطبيعي أن نجد أسفل تغريدة أو تدوينة عادية على "فيسبوك" عشرات التعليقات المليئة بالسباب والشتائم، والتي تتجاوز حتى على الأعراض والأمهات. لا لشيءٍ إلا لأن صاحب المنشور كتب رأياً يُخالف رأي هؤلاء المتنمّرين.
وهؤلاء للأسف صارت نسبتهم كبيرة، والسبب اعتماد التنمّر والعدائية سياسة ممنهجة من أحزاب السلطة، فصرنا بالإضافة إلى التنمّر الممنهج هذا نرى أناساً عاديين، مدفوعين بإغراءات الجو العدائي في مواقع التواصل، للدخول في هذا الصخب السامّ. وهو صخبٌ ليس للعقل والتأمل والتفكير أي موقع فيه.
في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كان الحزبان الأساسيان في ذلك الوقت، الشيوعي العراقي والبعث العربي الاشتراكي، يتجادلان على صفحات الجرائد، وفي المقاهي والمنتديات بالأفكار التجريدية، وقد يحتدّ النقاش بينهما على تفصيلة معيّنة، ولكن هناك في الشارع مستوى آخر من المواجهة، تبدو مثيرة للسخرية أحياناً، حين يتعارك شيوعيون وبعثيون بالأيادي على أمورٍ تافهةٍ وقد لا يفهمونها. وتخبرنا التدوينات التاريخية لتلك المرحلة بأن كلا الحزبين كان يحتفظ بين صفوفه بالزعران والقبضايات والشقاوات، ليستعملهم في مواجهات الشوارع إن حدثت. وقد يفتخر "الشقاواة" بأنه شيوعي أو بعثي، من دون أن يكون واعياً بالأسس الفكرية والعقائدية للحزب الذي ينتمي له. وكان المتديّن، أو الذي يسمّي نفسه إسلامياً في تلك الفترة، مهذّباً نقي اللسان، لا يعتدي على أعراض الناس بالكلام، ويتّهم الشيوعيين والبعثيين بأنهم "بلا دين"، ومن الطبيعي أن يلجأوا إلى البذاءات في الخصومة والعداوة.
واليوم، انتقل القبضايات والشقاوات إلى فضاء التواصل الاجتماعي، وغالبيتهم يدافعون عن أحزاب الإسلام السياسي، ولكنهم في الحقيقة، مثل أسلافهم من شقاوات البعثيين والشيوعيين، بلا دين، تحرّكهم العصبيات السامّة وأموال الفساد السياسي.