شعر... وكرة قدم
بينما أعيش أجواء بطولة كأس العالم لكرة القدم وأتابع مبارياتها وأحداثها الطريفة عبر شاشة التلفزيون، وأستمتع بكل ما يجري في خضمها من لقاءات وحكايات وأغنيات وأهداف وخلافات ومماحكات بين الجماهير المختلفة، جاءتني أسئلة مركّبة عن الشعر، في مقابلة صحافية. وكان أول سؤالين يقولان بالتفصيل المتفرّع بعضه عن بعض: ماذا يعني الشِعر لسعديّة مفرح؟ ومتى بدأت علاقتك به؟ وما دور الأسرة والبيئة الاجتماعية في صقل ميولك الأدبية، والشِعرية خصوصاً، وتوجيهها؟ وكيف ترين مستقبل الشِعر في زمن تنوّع الأجناس الأدبية، خصوصاً بعد تصاعد نجم الرواية في العالم العربي؟
قلت في إجاباتي إن الشعر هو الخلاص، وهو الملاذ الجمالي الذي يوجز تاريخ العالم الجمالي. لست معنيةً بالبحث عن وظيفة محدّدة للشعر، وأعتقد أن هذا أحد أهم أسرار القصيدة تاريخياً، أنها بلا وظيفة محدّدة لكنها مع هذا ضرورية لبقاء الكائن البشري على قيد الحياة. ولا أتذكّرني بمعزل عن القصيدة. أظن أنني ولدتُ في بيئة من الشعر الخاص. جدتي رحمها الله كانت شاعرة، وكانت تحتفي بسير الشاعرات البدويات، وتحاول أن تنقل تلك السير إلى مخيلتي عبر الحكايات الليلية. ما زلت أتذكّر تلك الحكايات المفعمة بالجمال بين صلاة وصلاة، وما زال صوت جدّتي وهي تترنّم بتلك القصائد الحانية يرنّ في أذني حتى بعد مرور أكثر من أربعة عقود. وطبعاً لا أتذكّر متى كتبت قصيدتي الأولى، فالبدايات كانت دائماً تهوينات تغوص في الذاكرة، لكنني على الأقل أتذكّر أول قصيدة لي نشرتها وكنت في الجامعة. نشرها أستاذي في مجلة البيان المحكّمة الصادرة عن رابطة الأدباء في الكويت. ومن يومها وأنا أعيش مرحلة شك عظيم بأحقيتي في لقب شاعرة، ذلك أنني أمارس حياتي في ظلال القصيدة، بغض النظر عن كتابتي لها دائماً.
أما السؤال عن مستقبل الشعر فهو عدمي، لأنني متأكدة من أن لا مستقبل بلا شعر، فالشعر ضرورة إنسانية تتعدّى الاضطرار الجمالي أصلاً. ومن الجيد أن نتيقن من ذلك على هامش تصاعد نجم الرواية في الوطن العربي. لا فن إبداعياً قادر على إلغاء فن آخر، بل كل فن من هذه الفنون يعضد الفن الآخر. من الجميل جداً أن تتكئ الرواية على اللغة الشعرية، ويستفيد الشعر من حركة الرواية عموماً، ولا ينبغي أساساً أن نمعن في النظر إلى الفروق بين الأجناس الأدبية أو الإبداعية. الشعر بخير والرواية كذلك، وأنا أنظر إلى حركة الرواية الدؤوب على صعيد التأليف والنشر في ظل تكاسل الشعراء عن الإصدارات أو ابتعاد بعض الأسماء الشعرية عن النشاط بشكل إيجابي. فلن يبقى، في النهاية، من النشاط الشعري العام سوى ما هو حقيقي وقادر على البقاء بالضرورة.
ورغم أنني مقتنعة تماماً بإجابتي الموسّعة عن الشعر معنى ومستقبلاً على الصعيدين الخاص والعام، إلا أن أجواء بطولة كأس العالم جعلتني أحاول إعادة النظر في ما كتبته.
اللعب الكروي الجميل، وما يتحصل لي من متع مباشرة وحقيقية لا ينبغي أن يخرجا عن سياق الشعر وعن معناه، وما أراه في المدرّجات من حماسات بالتشجيع جدير بأن نضعه في السياق ذاته، والحوادث والحكايات والأغاني الطريفة التي نتابعها عن الملاعب وقريباً منها، يمكننا أيضاً أن ندرجها في سياقات الشعر ومتعه التي لا تنتهي بالنسبة لشاعر أو متذوّق للشعر.
يحيلنا هذا كله أيضاً إلى استحالة تعريف الشعر تعريفاً مدرسياً منضبطاً يمكننا من خلاله أن نحصر الشعر في قواعد لغوية أو موسيقية أو موضوعية ثابتة، ولا يمكن زحزحتها استجابة لشغف البشر وتطلعاتهم الجمالية وحماساتهم تجاه ما يحدث في هذا العالم.
هذه البطولة، إذن، يمكن أن تكون ديوان شعر مكتملاً بقصائد كروية لا يمكن أن تتجاهلها الذائقة الرفيعة.