شعبية بوتين بعيون عربية

29 مارس 2022
+ الخط -

قبل الغوص في مياه بركة الشعبية التي يحظى بها الرئيس الروسي، بوتين، في بلادنا، وجسّ مدى عمقها، والوقوف على مصادر ينابيعها، يجدُر بنا تدوين استدراكين ناظمين لمادة هذه المقاربة القابلة للمراجعة من باحثين جادّين وصحافيين استقصائيين: أولهما غياب استطلاعات الرأي، الافتقار إلى أداة معيارية لقياس توجهات الرأي العام إزاء ما نحن بصدده من انطباعاتٍ مستمدّة مما تفيض به شبكة الاتصالات، وتزخر به وسائل الإعلام العربية. وثانيهما هامشية كل هذه الآراء والتعليقات التي لا تقدّم ولا تؤخّر في شيء على مراكز صنع القرار، في بلادٍ لا أهمية فيها للرأي العام من أساسه.
والحق أن بوتين الذي كان يتمتع بشعبية محدودة لدى فئات اجتماعية مسكونة بهاجس البطل المخلّص، ناهيك عن تلك المكوّنات السياسية المُصابة بداء عبادة الشخصية، قد وسّع من دائرة المعجبين به، وراكم على ظهوره زعيماً متحدّياً هيمنة القوة العظمى الوحيدة، ومنافساً لها مركز زعامة القطبية الواحدة، من خلال خوضه ثلاث مغامرات اقتحامية، بدأت في جورجيا عام 2008، وتواصلت في شبه جزيرة القرم عام 2014، وامتدت إلى سورية عام 2015، إلى أن بلغت مداها الأقصى هذا العام في أوكرانيا، الأمر الذي استكملت فيه صورة بوتين الكثير من مقومات شخصية الزعيم الندّ، الذي يقود بلداً كبيراً قوياً ومكافئا جبروت الولايات المتحدة.
ومع أن الأغلبية الساحقة من المسؤولين وقادة الرأي العام في الشرق وفي الغرب، ظلت متحفّظة على ممارسات بوتين السلطوية، القائمة على الاستبداد والفساد والديماغوجية، وبقيت متشكّكة بقدراته الشخصية، وبإمكانات بلاده الفوز في المعركة الكبرى على مكانة الدولة العظمى الثانية، إلا أن أوساطا عربية واصلت الثناء عليه، واستمرّت في التعويل على مضاء قيادته ضد التغوّل الأميركي والمظالم الغربية، تعلّق على صدره النياشين والأوسمة، وترجو من السماء أن يريها يوماً أسود قمطريرا في من بالغوا في أكل حقوقها بالجملة، وأمعنوا في الافتئات عليها بالمفرّق.
اليوم، وفي غمرة حرب بوتين على جارته أوكرانيا، انقسم الرأي العام العربي، وفق الانطباعات الآنف ذكرها، بصورة أوضح، وتمترس القوم على خطوط انقساماتهم السابقة التي كانت قد تجلّت بكامل أبعادها إثر دخول روسيا على خط الأزمة السورية، حيث راحت القوى اليسارية والقومية، في حينه، فضلاً عن الشبّيحة ورافعي شعار الممانعة، وكل من نافحوا عن وحشية الغارات الجوية الروسية على المدن والأرياف، بما في ذلك حلب، يتموضعون مجدّداً على ضفة الانقسام القديم ذاته، وراحوا يهلّلون لقصف كييف وشقيقاتها، وتهجير ملايين من سكّانها، هاتفين هذه المرّة "بالروح بالدم نفديك يا بوتين"، فيما تطوّع آلافٌ منهم للقتال تحت راية القيصر، مرتزقة أشراراً، أو قل بندقية للإيجار ببخس الثمن.
وأحسب أن كلمة الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، أمام الكنيست، وما تضمنته من مقارنة ساذجة بين المخاطر الوجودية التي تحيق بوضعية دولة احتلال استعمارية غاصبة (تفضّل العلاقة مع روسيا، وتضع نفسها ملاذاً آمناً لليهود الأوكرانيين فقط، وتعمل مغسلة للأموال الروسية الفاسدة) والوضع الأوكراني الراهن، نقول كلمة أمدّت المتحمّسين لغزوة بوتين التوسّعية، بذخيرة كلامية جديدة، وأدّت إلى رفع أصواتهم عالياً، وأسهمت في إذكاء السجال على الشبكات، بين من لا يزالون على اعتقادهم أن موسكو البوتينية هي موسكو السوفييتية، وأن بريجنيف لا يزال، بشحمه ولحمه، رابضاً في الكرملين، ومن يرون أن الاحتلال هو الاحتلال، أيا كانت هوية المحتلين، وأيا كانت ذرائعهم ولغتهم، وكان خطابهم التبريري المتهافت.
وإذا كان من السهل نسبياً تشخيص ماهية الراقصين في أعراس بوتين الدامية، المصفقين لتلويحه الجنوني باستخدام الأسلحة النووية، فإن من الصعوبة بمكان تحديد هويات الرافضين الانسياق وراء تبريرات القيصر الجديد مغامرته العسكرية المتعثرة، غير أنه يمكن القول، باطمئنان، إن هؤلاء الرافضين لا ينتسبون إلى خلفيةٍ عقائديةٍ مشتركة، فمنهم أناسٌ ديمقراطيون ومثقفون تقدّميون وليبراليون، ومنهم إسلاميون آثروا الجلوس في المنطقة الرمادية، ناهيك عمّن روّعتهم سوابق بوتين الوحشية في غروزني وحلب بالأمس، وماريبول اليوم، سيما العراقيون والسوريون والليبيون وغيرهم، والفلسطينيون خصوصاً، الممتلئة ذاكرتهم بمآسي الإقلاع والتهجير تحت القصف والتهديد، حيث أعلن عشرات من مثقفيهم، في وثيقة ضميرية أخلاقية مشرّفة، إدانتهم غزوة بوتين أوكرانيا، كونها احتلالاً غاشماً يحاكي احتلال بلادهم المنكوبة.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي