شظايا متطايرة للحرب على أوكرانيا
أثارت حرب روسيا على أوكرانيا موجة من البلبلة في الأوساط الإسرائيلية النافذة، وقد سعت تل أبيب إلى أداء دور وسيط بين الجانبين، لكنها اصطدمت برفض روسي لهذه الوساطة، رغم ما أبداه رئيس حكومة الاحتلال، نفتالي بينت، من ميل تجاه موسكو، حين دعا الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى "الاستسلام بشرف". وحين نأت تل أبيب بنفسها عن العقوبات المفروضة على موسكو، وانبرى بعدئذ وزير الخارجية، مائير لبيد، لتعديل الموقف وتوزيع الأدوار بإظهار تعاطفه مع أوكرانيا. هذا في وقت توقّعت فيه موسكو، وأملت أن يواصل بينت الانحياز بصورة أوضح إلى الموقف الروسي، وذلك استناداً إلى حاجة تل أبيب لإدامة غض النظر الروسي عن الاستهداف العسكري الإسرائيلي الدائم للوجود الإيراني في سورية. بل توقعت موسكو أن تنجح في التسبب بشرخٍ في العلاقات الإسرائيلية الأميركية على خلفية الموقف من حرب أوكرانيا، وقد حدث أن اضطراب الموقف الإسرائيلي بقي على حاله، إلى أن جاءت تصريحات وزير الخارجية، سيرغي لافروف، بخصوص "عرق يهودي في دم أدولف هتلر". وسارعت تل أبيب إلى التقاط هذا الموقف، والنفخ فيه للادّعاء أن معاداة السامية لم تتوقف لدى النخب الروسية، بما فيها لدى مستويات عليا في الحكم. وبهذا، اندفعت تل أبيب إلى تحويل الأنظار عن مجريات الحرب في أوكرانيا وعن المواقف السياسية حيالها، بالتلويح بمعاداة السامية، وذلك سعيا إلى انتزاع مكسب سياسي خالص، يقوم على إثارة التعاطف الدولي مع تل أبيب في هذه الآونة.. وليس مع كييف مثلاً.
والبادي أن شقّة الخلاف مرشّحة للاتساع بين تل أبيب وموسكو، فقد عمدت الأخيرة إلى توجيه اتهام بأن كتيبة إسرائيلية تقاتل مع الأوكرانيين. وقد ورد الاتهام بعد يوم على مطالبة تل أبيب لموسكو بالاعتذار عن تصريحات لافروف، وهو ما تجاهلته موسكو، وإن أعلن بينت، لاحقا، اعتذار الرئيس بوتين إليه، وقد تريثت تل أبيب في الرد على هذا الاتهام، أملا بتضييق شقّة الخلاف وتفادي التصعيد.
تخشى تل أبيب من ضغوط إعلامية وارتفاع أصوات هنا وهناك تندّد بالاحتلالات في كل مكان، وبما يشمل الاحتلال الإسرائيلي الطويل للأراضي الفلسطينية والسورية
ويذكر هنا أن تل أبيب، أمام الغزو الروسي لأوكرانيا، قد خشيت من بروز ضغوط إعلامية وارتفاع أصوات هنا وهناك تندّد بالاحتلالات في كل مكان، وبما يشمل الاحتلال الإسرائيلي الطويل للأراض الفلسطينية والسورية. وقد ارتفعت بالفعل أصوات برلمانية أوروبية شجاعة وأصوات لناشطين مدنيين تذكّر بالاحتلال الإسرائيلي القديم، وغياب العدالة عن فلسطين وشعبها. وردّت تل أبيب على هذا التذكير بسجلها الأسود بتصعيد السلوك الاحتلالي، واستغلت وما زالت، الانشغال الدولي بأوكرانيا لتصعيد إجراءاتها ضد المقدّسات الإسلامية والمسيحية ومواصلة التهويد القسري للقدس المحتلة.
فيما كان من شأن الغزو الروسي لأوكرانيا أنه أعاد التذكير بقوة بالسجل الروسي في سورية في مضمار اتباع سياسة الأرض المحروقة وتهديم المدن وبخاصة حلب الشهباء للرد على مطالب المعارضين هناك. ولم تجد موسكو ما تردّ به على الاتهامات بشأن سلوكها التدميري في سورية، فيما قامت بتثبيت خلافاتها الطارئة مع تل أبيب، وحيث تنظر موسكو إلى تل أبيب من منظور تحالف هذه الأخيرة مع واشنطن، وليس من أي منظور آخر. وإذ لم يتحقق تباعد إسرائيلي أميركي على خلفية المواقف من أزمة أوكرانيا، فقد عمدت موسكو، في هذا السياق، إلى توجيه دعوة رسمية إلى حركة حماس لزيارة وفد منها موسكو. وقد بدت هذه الخطوة مفاجئة، وسط انهماك موسكو بحربها على كييف منذ أزيد من عشرة أسابيع. وقد زار بالفعل وفد من الحركة برئاسة موسى أبو مرزوق موسكو في 4 مايو/ أيار الجاري. علما أن "حماس" تجنّبت اتخاذ مواقف علنية من أزمة أوكرانيا، ومن شأن تأدية هذه الزيارة الرسمية إثارة انطباع بأن الحركة تجنح إلى تأييد موسكو، وعلى غرار ما فعل رئيس وزراء باكستان السابق، عمران خان. وبالنظر إلى الأجواء السياسية السائدة، يصعب تصوّر أن موسكو معنية في هذه الظروف بـ "لمّ الشمل" الفلسطيني، وهي كانت، في أواخر العام الماضي، قد استقبلت وفدا من "حماس"، وتردّد أنها ستواصل مساعيها لوقف الانقسام الفلسطيني، لكن هذه المساعي توقفت وبغير توضيح. وعلاوة على ذلك، بينما أعلنت موسكو مواقف عامة بخصوص حل الدولتين، وأهمية استئناف التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، لم يلق التصعيد ضد المقدّسات المسيحية صدىً يذكر لدى موسكو. وغابت التعبئة الدينية عن الأجندة الروسية إزاء القدس، فيما حضرت تجاه كييف.
توجّه "حماس" نحو موسكو يفتح شهية الإسرائيليين على تأليب أطراف أوروبية وغيرها ضد الجانب الفلسطيني
والراجح أن موسكو تسعى إلى كسب تأييد الرأي العام الإسلامي عبر دعوة "حماس" في هذه الآونة، والضغط على تل أبيب بالإيحاء الظاهر أن علاقاتها بالحركة الفلسطينية المقاومة باتت في مستوى أفضل من علاقاتها بتل أبيب، وأن العلاقات مع هذه الحركة قابلة لأن تتطور في المستقبل غير البعيد. وهذا في وقت تشتدّ فيه المحاذير بتصعيد جديد في الأراضي المحتلة، وفي القدس بالذات، وذلك بمزيد من الانتهاكات ضد المسجد الأقصى بالتزامن مع الاحتفالات الإسرائيلية بذكرى الاستيلاء على أرض فلسطين وقيام الدولة العبرية. أما تل أبيب، من جهتها، فسوف تسعى إلى استغلال هذه التطورات لمزيد من إطلاق المزاعم بأن حملتها الشرسة إنما تستهدف حركة حماس، وليس أي طرف آخر في الأراضي المحتلة. ومؤدى ذلك أن من شأن توجّه "حماس" في هذه الظروف نحو موسكو زجّ الوضع الفلسطيني في استقطابات حادّة على صعيد العلاقة مع المراكز الدولية، ومع إشاعة انطباع حول الجانب الفلسطيني أنه إذ يكافح لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، فإنه يغضّ النظر عن استباحة بلد آخر وتدميره واحتلال أجزاء واسعة منه، وهو أوكرانيا... أما تل أبيب التي سارعت إلى تحويل الحرب على أوكرانيا إلى مجرد مناسبة للتحذير من تجديد مزعوم لمعاداة السامية، مع تجاهل الكارثة الهائلة التي تحيق بالأوكرانيين، فإن توجّه "حماس" نحو موسكو يفتح شهية الإسرائيليين على تأليب أطراف أوروبية وغيرها ضد الجانب الفلسطيني وضد الحقوق الفلسطينية في هذه المرحلة، ومحاولة التغطية على الانتهاكات الإسرائيلية المنهجية الفظة ضد القدس ومقدّساتها.