شرح مبسّط لصراع الولايات المتحدة والصين

12 مارس 2023
+ الخط -

يسعى هذا المقال إلى فكّ الاشتباك بين القضايا المتداخلة في شأن الصراع الدائر حالياً بين الولايات المتحدة والصين، أو شرحه بشكل يعيده إلى التبسيط في وقت تجتهد الأخبار العالمية في تعقيده، غرضها أن تتمكّن من تأويل مجرياته وأحداثه من أجل إثارة القارئ عند كل خبر:

لا تتنافس الولايات المتحدة والصين على قضية راهنة، مثل استقلال تايوان أو حقوق التجارة العالمية أو أجيال الإنترنت أو غيرها من موضوعاتٍ تطفو على سطح الأخبار الدولية، وإنما تتصارعان على مستقبل النظام العالمي: هل يبقى أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة كما هو اليوم، أم يتحوّل إلى نظام متعدد الأقطاب يكون للصين فيه دور مكافئ للولايات المتحدة وربما أكبر منه؟ ذاك هو جوهر المسألة لا أكثر ولا أقل.

وما تزال الولايات المتحدة سيدة العالم والمسيطرة على اقتصاده ومؤسّساته الدولية، كما كان حالها منذ نهاية حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي عام 1991. لكن واشنطن تعتقد أن الصين مؤهّلة لتغيير هذا الواقع لو مضت في خطتها لتبديل شكل النظام العالمي، بفضل إمكاناتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية. لذا فقد قرّرت قطع الطريق على بكين من خلال تجفيف منابع صعودها على كل صعيد ممكن، بما في ذلك إضعاف تقاربها السياسي ومشروعاتها الاقتصادية مع الدول، وقد صاغت الصين هذا على شكل "مبادرة الطريق والحزام"، وصولاً إلى حرمانها لو استطاعت من استيراد (وتطوير) الأجيال الجديدة من أشباه الموصِلات التي لا غنى عنها للتقدّم التكنولوجي المدني والعسكري.

على عكس الصين، لا تُنكر الولايات المتحدة إنها تدير الصراع بعقلية المحاور التي لم تفرّط بها حتى بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية

تحاول كل واحدة من القوتين إلصاق صورة نمطية غير طيّبة بالطرف الآخر، لتكثف مشروع خصمها في صورة ذهنية منفّرة لدى الرأي العام المحلي والدولي، كذلك لدى الحلفاء ومناطق التأثير في العالم. باختصار، تصوّر الصين الولايات المتحدة باعتبارها دولة استعمارية تستعمل خطاباً مزيفاً يقوم على فكرة الحرية، لكن باطنه نهب خيرات الآخرين وظلمهم، وهذا على عكس الصين التي لا تتوفّر على ماضٍ استعماري. على الجانب الآخر، تصوّر الولايات المتحدة الصين دولة متهورة وغير مسؤولة، لا تُحسن استعمال التقدّم الاقتصادي والتكنولوجي فتؤذي البشرية وتسبّب لها الضرر، كما جرى في مسألة انتشار وباء كوفيد 19، ثم في حادثة صاروخ الفضاء الصيني الذي صوّره الإعلامي الغربي أنه كان تائهاً في الفضاء ويمكن أن يسقط في أي مكان. والإعلام الأميركي أقوى كثيراً من الإعلام الصيني، وأكثر قدرة على فرض صورته النمطية عن عدوه، بدليل ما جرى في قصة صاروخ الفضاء الذي كان الإعلام الصيني يصرُخ بأنه ليس تائهاً، وأنه سيحترق فور دخوله الغلاف الجوي، من دون أن يسمع أحد.

... لم تكن الولايات المتحدة والصين عدوتين، وكان يمكنهما تقاسم المصالح منذ نهاية الحرب الباردة، إذ بينما كانت أميركا تتفرد بقيادة العالم، استفادت الصين من آليات العولمة وحقّقت بفضلها نجاحاً تجارياً هائلاً أنجز لها نمواً اقتصادياً عظيماً تجاوزت معدلاته حاجز الـ10% لسنوات عديدة بين منتصف التسعينيات وأواخر العقد الأول من القرن الجديد، ما رفعها إلى المرتبة الاقتصادية الثانية عالمياً، بعد أن كانت دولة فقيرة نامية حتى أواخر سبعينيات القرن العشرين. فبحسب أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2022، واستناداً إلى أرقام الناتج المحلي الإجمالي الرسمي لكل دولة، بلغ حجم اقتصاد الولايات المتحدة نحو 25% من إجمالي الاقتصاد العالمي، تلاه اقتصاد الصين بحجم نسبته نحو 17.5%، ثم اليابان بنحو 4%. لكن الصين تغيرت ابتداءً من عام 2013 مع وصول الرئيس الحالي شي جين بينغ إلى السلطة، لأنه انتقل بالصين من التركيز على التنمية الاقتصادية الداخلية إلى السعي إلى تحقيق نفوذ سياسي دولي، وهذا جعل واشنطن تستشعر خطراً استراتيجياً.

تريد الولايات المتحدة أن تعيد الصين إلى "بيت الطاعة" الذي خرجت منه منذ بدأت تحلم بالتحوّل إلى إمبراطوريةٍ ذات نفوذ سياسي وعسكري

المسكوت عنه في هذا الصراع، هو ما يودّ كل طرف أن يقوله للعالم عموماً، ولحلفائه بشكل خاص. تودّ الصين القول إن التعاون معها يشكّل ضماناً لتقدّم التنمية وتحسّن الاقتصادات وارتقاء مستوى معيشة الناس، وصولاً إلى "بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية"، بالاستفادة من إمكاناتها الاقتصادية ونجاحاتها التنموية. أما الولايات المتحدة فتودّ القول إن التعاون معها يشكل ضماناً للأمن العالمي الذي يهدّده صعود الصين، ولأمن كل واحدةٍ من الدول من نتائج صعود الصين التي يحكمها حزب شيوعي يقوده فردٌ، ويمتلك ترسانة نووية، وأبرز مثال على ذلك موضوع تايوان؛ فالولايات المتحدة حين أذكت الخلاف حول هذا الملف بدون سابق إنذار، وصوّرت للعالم كما لو أن الصين توشك على غزو تايوان وضمّها، كانت تهدف لبدء الحشد ضد بكين في شرق آسيا تنفيذاً للرؤية التي تبنّتها إدارة الرئيس جو بايدن حول أولوية التهديد الصيني، وصاغتها في "استراتيجية الأمن القومي" الأميركي. وإلى جانب الأمن، تبدي واشنطن عادة استعدادها لتقديم مساعدات اقتصادية ودعم سياسي في المؤسّسات الدولية لمن يتعاون معها، كما قالت لدول أفريقيا ووسط آسيا، فيجتمع لديها الأمن والاقتصاد. باختصار، يمثل الاقتصاد وسيلة الصين للوصول إلى قلب العالم، بينما يمثل الأمن ذريعة الولايات المتحدة للوصول إلى عقله!

... لا تعترف الصين بأنها تقيم علاقات تحالف مع خصوم الولايات المتحدة الرئيسيين في العالم، مثل روسيا وكوريا الشمالية وإيران، بل تدّعي أنها لا تعترف بطريقة المحاور و"عقلية الحرب الباردة"، وتتعامل مع كل الدول بشكل متكافئ. أما الولايات المتحدة فلا تُنكر إنها تدير الصراع بعقلية المحاور التي لم تفرّط بها حتى بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية، بل تابعت توظيفها لتقسيم الدول بين "عالم حر" وآخر معادٍ للحرية، بغرض تبرير سلوكها السياسي وحروبها العسكرية.

إلى ذلك، لا تريد الولايات المتحدة تدمير الصين ولا احتلالها. تريد فقط أن تعيدها إلى "بيت الطاعة" الذي خرجت منه منذ بدأت تحلم بالتحوّل إلى إمبراطوريةٍ ذات نفوذ سياسي وعسكري وكلمة مسموعة في العالم. تريدها أن تعود حليفاً لها كما كانت منذ عام 1971، حتى وهي ترفع شعاراً شيوعياً، مقابل مكاسب اقتصادية هائلة جعلتها "مصنع العالم"، والتزام أميركي بمبدأ "صين واحدة" الذي يوازن بين الاعتراف بالصين الشعبية دولة واحدة للأمة الصينية، والإبقاء على قضية تايوان سيفاً مسلطاً عليها تستعمله ضدها وقت الأزمات. وهذا يعني أن الحصار العسكري الذي باتت تفرضه الولايات المتحدة على الصين في غرب المحيط الهادئ، من خلال انتشار قواتها ومناوراتها الحربيّة مع حلفائها: اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفيليبين وغيرها، يصنّف في باب التهديد، علّ الصين تعود إلى سابق أحوالها. والحال أن القوة العسكرية مستبعدة ما دامت الولايات المتحدة قادرةٌ على الضغط على بكين بأدوات التجارة والدبلوماسية والتكنولوجيا.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.