شبح لينينغراد الفلسطينية يحوم

18 يوليو 2014
+ الخط -

كان مروعاً "حصار لينينغراد". استمر سنتين ونصف السنة، أودى بحياة مليون ونصف المليون من سكان المدينة. بدأ عام 1941، عندما استكملت القوات الألمانية الخاصة تطويق المدينة، فقد اتخذ الزعيم الألماني هتلر قراراً استراتيجياً لخنق المدينة، بدلا من تخصيص موارد عسكرية قيمة لمواجهتها مباشرة.
أصبح الجوع والبرد أكبر أعداء المدينة التي استنفدت إمدادات النفط والفحم، فتجمدت المياه وانكسرت الأنابيب، وحرم السكان من المياه الصحية، وجزّئ نصيب الفرد من الإمدادات الغذائية إلى الثلث. واختفت الكلاب والقطط والخيول وحتى الغربان من المدينة، لأنها أصبحت الطبق الرئيسي للعائلة، وانتشرت التقارير بوجود أكلة لحوم البشر.
حرق السكان الكتب والأثاث لإبقاء الدفء. كانت تستهلك الحيوانات من حديقة الحيوان، في مدينة الحصار في وقت مبكر، ثم الحيوانات الأليفة المنزلية، تم كشط لصق ورق الحائط المصنوعة من البطاطا خارج الجدار، وكانت تغلى الجلود لإنتاج هلام صالح للأكل، تم طهي العشب والحشائش، وعمل العلماء لاستخراج الفيتامينات من إبر الصنوبر.
مات حوالى أحد عشر ألفا في نوفمبر/تشرين الثاني، ثم ارتفع العدد إلى 53 ألفاً في ديسمبر/كانون الأول، وعند انتهاء الحرب، تجاوزت حصيلة القتلى مليوناً ونصف مليون، مع نحو أربعة آلاف شخص من لينينغراد يتضورون جوعاً حتى الموت في يوم عيد الميلاد عام 1941.
وتناثرت الجثث في الطرقات والحدائق، ولم تدفن، لانخفاض حرارة الأرض إلى درجة الصقيع، مع استمرار القوات الألمانية في قصف المدينة، وأصيب ناس فعليا بالجنون من الجوع.
يعتبر حصار لينينغراد الحصار الأكثر تدميراً في العالم، ويصف مؤرخون عمليات الحصار، بـ"سياسة التجويع لدوافع عنصرية" التي أصبحت جزءاً من الحرب الألمانية، لم يسبق لها مثيل من إبادة ضد السكان من الاتحاد السوفييتي، عموماً. هذه الصورة الدرامية البشعة قد يعتبرها القارئ شيئاً بعيداَ حدوثه في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية، الآن أو مستقبلا، لكن دراما الحربين، السورية والعراقية، أيضاً، لم تكن في مخيلة أحد من البشر، فبعدما تعود المواطن العربي، سنوات، في مشاهدة الاعلام الدولي مصوراً له المجازر في البلدين على أنها قصة تعيد نفسها، كل يوم، على شاشات التلفاز، ليتم التنويم المغناطيسي لعقله ومشاعره، فتمل، بالتالي، نفسه من سماع ومشاهدة السيناريو نفسه، والمقاطع نفسها المتكررة.
وتَعزز هذا التنويم المغناطيسي بالسياسة الدولية، في دعم كل طرف من جانب الصراع الطائفي على حدة، حتى لا يتغلب أحد منهم على الآخر، فتستمر القصة المعادة يومياً من دون تغيير في المقاطع، أو المشاهد. فعندما يتفوق أحد أطراف الصراع الطائفي على الآخر، أو يستولي على أسلحةٍ وعتادٍ، كما حدث في سورية والعراق، تستنفر القوة العالمية وإعلامها، حتى لا يتغير التوازن، ولا يثار المشاهد بمقاطع سينمائية جديدة، قد تغير من إحباطه المستمر، أو مشاعره المخدرة. 
وكما قال نتنياهو "إذا حاربت أعداءك، فلا تدعم أحدهما على حساب الآخر، بل أضعف كليهما". أما الإعلام الغربي، فيعمل، أيضاً، ليل نهار، سنوات على هذا التنويم المغناطيسي المستمر للمواطن. فيظهر صورة الفلسطيني الذي يطلق الصواريخ على الإسرائيلي المسالم، إرهابياً، حتى المستوطن مسكين، إلى درجة أن مذيعةً ألمانيةً كادت تبكي، عندما قتل المستوطنون الثلاثة، بدون حتى السؤال عن أسباب وجودهم في أراضي الغير، أو عن

اعتداءاتهم على الشعب الفلسطيني بالقتل المتواصل وإرهاب المواطنين، أو حتى إجراء بحث صحافي عن أدلة لم تظهر حتى اليوم. فالدولة الديمقراطية الإسرائيلية ليس فقط لم تعثر على الجاني، قبل الحكم بالإعدام على شعب بأكمله، ولم تكن حتى اكتشفت موت المستوطنين، بل لم تجر أبسط التحقيقات الجنائية الطبيعية في أي دولة ديمقراطية. وعمل الإعلام الغربي، منذ عقود أيضاً، على إظهار الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أنه عنف متبادل لقوة متساوية متكافئة.
ومن مظاهر نجاح هذه المعركة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني أنها تقوم في قلب شهر رمضان، بدون أي رد فعل من العالم العربي والإسلامي. وقد فقد إعلام كثير في بعض بلدان المنطقة الوعي قصداً، حتى لا يتهم بأنه كان شاهداً على شيء، أو مسؤولاً عنه، حين كان في غيبوبة.
إذن، بعدما تفوقت إسرائيل عسكرياً واقتصادياً، وأصبح العالم لا يسألها عما تفعل، بل وتبنّى سياستها في الخداع والتنويم المغناطيسي للعالم أجمع، إعلامياً، ليعتقد العالم كله أن الفلسطينيين هم الإرهابيون ولإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وأن أطفال فلسطين الموتى ما هم إلا أشلاء، استخدمتها المقاومة الفلسطينية دروعاً بشرية، بعد ذلك كله، أصبحت الطريق ممهدةً لإحداث الدمار الشامل للشعب الفلسطيني، يتيح لإسرائيل ليس فقط إنهاء القضية الفلسطينية الى الأبد، خصوصاً أن القضية الفلسطينية ككل متمثلة في الحراك الدبلوماسي الدولي والسياسي وإدراك شعوب العالم بصورة أوضح عن حقيقة الاحتلال والصراع، أصبحت عائقاً للتمدد الإسرائيلي والهيمنة على المنطقة، وإطلاق جناحي إسرائيل، والتحليق بهما عالياً على المنطقة كلها، المشغولة بتمزيق نفسها إرباً بالطائفية، والخناق على السلطة، المتقلصة حجماً باستمرار، بعدما كانت دولاً لها وزن، وقوة إقليمية ودولية.
وليس غريباً أن نرى الفيديو الخاص بقناة روسيا الذي أظهر البلاغة والحكمة والاندفاع المستشرس للمذيعة للأميركية في فضح حقيقة الإجرام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، على جميع صفحات التواصل الاجتماعي في لحظات، ويسألون الغير بنشره للغرب حتى يعرف الحقيقة، لأن العالم في أشد الحاجة إلى الوسائل والقدرات لإفاقة البشرية من التنويم المغناطيسي القاتل للحقيقة والإنسانية.
تأتي معركة غزة اليوم، بعدما أعدت المشاعر المغيبة والعواطف الميتة لتقبل الحرب على القطاع ولينينغراد الثانية في التاريخ.
فهل يصل قطاع غزة إلى حد المجاعة؟ أم هل يفقد الناس عقولهم من استمرار القصف الذي وصل إلى ألف غارة جوية، وتدمير آلاف المنازل وأكثر من عشرة آلاف مشرد، طبقا لتقارير الأمم المتحدة؟
الجواب ممكن، إذا طالت مدة الحرب، وبدأ الإسرائيلي فقدان أعصابه، واستمرت "حماس" في عدم الاستسلام ورفض الشروط الاسرائيلية.
فهل من منقذ شجاع عربي، أو أعجمي، ليحطم معبد الكذب والافتراء على شعبنا الفلسطيني المظلوم الذي اتهم بكل أنواع الجريمة، على الرغم من براءته، وعانى من كل أنواع العذاب، حتى كاد يصبح راهباً، خصوصاً أنه على مقربةٍ من أسوأ حصار وكارثة.
في يناير/كانون الثاني 1943، حطم جنود الجيش الأحمر الخطوط الألمانية، تمزق الحصار، وأنشئت طريق إمدادات أكثر كفاءةً على طول شواطئ بحيرة لادوغا. لباقي الشتاء، و"طريق الحياة" عبر بحيرة لادوغا المتجمدة أبقت لينينغراد على قيد الحياة. في نهاية المطاف، كان قد وضع خط لأنابيب النفط والكابلات الكهربائية على سرير البحيرة. في صيف 1943، زرعت الخضروات على أي أرض مفتوحة. في أوائل 1944، اقتربت القوات السوفييتية من لينينغراد، ما اضطر القوات الألمانية على التراجع جنوباً من المدينة في 27 يناير. وكان الحصار قد انتهى.

 

BF71A57A-6833-49C0-8D22-B960AD5656E6
خالد محمد النجار

كاتب ودبلوماسي فلسطيني، سفير سابق في قبرص، عمل مديرا عاما في وزارة الخارجية الفلسطينية، نال الماجستير في الإدارة والاقتصاد من الولايات المتحدة.