شاعر خارج الحفل

18 يونيو 2023

علي الفزّاع ... الشاعر "المستشار" كان يُؤثر العزلة ويقلّ في الكلام، وصاحب ثقافة واسعة

+ الخط -

لم يكن نهاراً ملائماً للموت ذلك اليوم الذي رحل فيه الشاعر الأردني، علي الفزاع. فقد كانت البلاد، عن بكرتها، تعيش بهجة الاحتفال بزفاف أسطوريّ. لكنها مفارقات الشعراء الذين "يحقّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم"، حتى في ثنائية الموت والحياة.

ومن مفارقات شاعرنا، أيضاً، أنه لم يكن له من اسمه نصيب، فقد كان أبعد ما يكون عن "إفزاع" أحد، بدماثته، وتهذيبه، وخفره، وهي الشمائل التي عرفتُه بها في ثمانينيّات القرن الماضي. كان يُؤثر العزلة، ويقلّ في الكلام، على الرغم من أنه يختزن ثقافة واسعة. وكان مولعاً بالأديب الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا، حدّ أنه أنجز عنه أطروحةً جامعيةً صدرت في كتاب.

آنذاك، كان الفزّاع في بواكيره الشعرية التي شدّت انتباهي، ولا سيما في ديوانه الأول "نبوءة الليل الأخير"، وكانت تكسو ملامحَه مسحة حزن رافقته حتى رحيله، وهي المسحة ذاتها التي صبغت مفردته الشعرية، وكان ينبئ بولادة شاعرٍ لامع، لكنه اختفى بغتة، لنعرف لاحقاً أنه أصبح مستشاراً إعلاميّاً للملك سنة 1999، ثم مستشاراً خاصّاً له سنة 2010، وظلّ في هذا المنصب حتى وفاته في الأول من يونيو/ حزيران هذا العام، الذي تزامن، كما مرّ بيانه، مع الزفاف الكبير.

منذ تلك اللحظة، اختفى علي الفزّاع (الشاعر)، ليظهر علي الفزّاع (المستشار)، الذي يُشاهَد بالبذلة الداكنة، وربطة العنق، ويُشاهد أحياناً في بعض المناسبات الرسمية بملامح وقورة، وبروتوكولات تفرض عليه المزيد من الوقار بحكم عمله.

بالطبع، فرحنا جميعاً للصديق الفزّاع، بمنصبه الجديد. ولكن كان منّا من استبطن قلقاً على "الشاعر"، وأنا منهم، لأنني أنحاز إلى القصيدة دوماً على حساب المنصب، ولأنني أدرك أن ولادة شاعر جديد لا تتكرر إلا كل مئة عام مرّة، بينما يمكن أن يكون لدينا مليون مسؤول في الفترة نفسها.

وفي هذا التحوّل المباغت، أبى علي الفزّاع إلا أن يحقّق مفارقة أخرى في حياته، وأعني بها ثنائية الشاعر والمستشار، التي تحتاج إلى توازنٍ دقيق، يخفق فيه الشاعر غالباً إذا لم يترك "مسافة أمان" تسمح للقصيدة بأن تظلّ حرّة وقادرةً على التنقّس بلا حدود، وهذا ما أتقنه شاعران أردنيّان، مصطفى وهبي التلّ (عرار) وحيدر محمود، فكلاهما كان قريباً من القصر، لكن ليس حدّ الاندغام التامّ، بل كانا قادريْن دوماً على الابتعاد إذا تضاربت الأفكار والمبادئ، ولا سيما لدى الشاعر عرار، الذي كان قريباً من الملك المؤسّس، وتسنّم مناصب رسمية خارج القصر، غير أن ذلك لم يمنعه من النقد الحادّ الموجّه إلى المسؤولين وأصحاب المناصب، كلّما شعر باختلال الميزانين، الاجتماعي والاقتصادي، ضدّ فقراء الوطن ومُعدميه، كان ينتصر للقصيدة التي عليها أن تؤدّي رسالة إنسانية ووطنية، وغالباً ما يدفع ثمن موقفه بالعزل أو التضييق، لكنه لم يكترث، فقد كان الشاعر فيه أقوى من المنصب. وبعض هذا حقّقه أيضاً حيدر محمود، الذي لم يتخيّل أحد يوماً أن يكتب قصيدة يهجو بها مسؤولين كباراً في البلد، وهو المعروف بـ"شاعر القصر"، لكنه حافظ أيضاً على "مسافة أمانٍ" تتيح له التغريد خارج السرب، إذا اقتضت الأوضاع ذلك.

أما في شأن صديقنا علي الفزّاع، فثمّة اجتهاداتٌ شتّى، عن "مسافة الأمان"، منها أنه لم يكن يطرح نفسه شاعراً من الأساس، بل أديباً وناقداً، على الرغم من أنني أرى، شخصيّاً، أن الشعر لديه يَفضُل على النقد، ونداء القصيدة فيه أظهر وضوحاً. ومنهم من يقول إن الفزّاع بلغ نهاية سقفه الشعريّ، سواء بالمنصب أو من دونه. وفي الحالين، لن يقدّم أزيد مما قدّمه للشعر، فضلاً عن أنه لم يطرح نفسه شاعراً متمرّداً من الأساس، والشعر لديه هواية أزيد منها قضية.

كلها تأويلاتٌ تحتمل الصواب والخطأ، لكن ما يعنيني هنا مفارقات علي الفزّاع الذي برهن أن القصيدة وحدها ما يرافق الشاعر إلى ضريحه، ولن يبكي عليه أحدٌ سواها، ولن يُؤجّل أيّ احتفال كبير لموته، حتى ولو كان من أركان الحفل.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.