سيّدة القطار
حكاية الأم التي تركها ابنها على قارعة الطريق، أو داخل عربة قطار خلفية، لِرُخْص ثمن تذكرتها، ثم ترك معها ورقةً كانت تعتقد أنه قد دوَّن فيها عنوان أحد قرابتها، حين تصل إلى وجهتها، أو حتى عنوان ابنها في المدينة الكبيرة، حين يلحق بها، بعد أن يقضي بعض شأنه، ولكن كل من يقرأ تلك الورقة تدمع عيناه؛ لأن ابنها يطلب من قارئها أن يُودِع أمَّه دار المسنِّين؛ لأنه لا يستطيع أن ينفق عليها؛ لشدَّة فقره.
حكاية هذه الأم شاهدناها، في أحداث فيلم مؤلم، هو "ساعة ونص"، حيث أبكت الممثلة القديرة، كريمة مختار، المشاهدين، في دور مؤثِّر، وهي تنتظر ابنها، ووقوع حادث تصادم للقطار الذي استقلَّته، ونجاتها منه، وانتظارها عودة ابنها.. كلُّ هذه الأحداث المحزنة تدفعك ألا تتمالك دموعك.
سيِّدة القطار كان فيلمًا قد عُرِض في العام 1952 (إخراج يوسف شاهين)، ولم يحقِّق نجاحًا، ولكن خلدت أغنية فيه، وهي "من بعيد يا حبيبي سلّم"، حيث عبَّرت بكلماتها سيِّدة القطار، ليلى مراد، عن شوقها لابنتها التي تركتها، وسافرت بالقطار، وحيث وقع حادث للقطار أدّى إلى تغيير مجرى حياتها، وربما أدّى الحادث إلى كشْف حقيقة أقرب الناس إليها، وهو زوجها الذي يستغلُّ مالها، وشهرتها؛ من أجل مصالحه، ولا يقيم وزنًا لعهد زواج، أو أبوَّة.
في حادثة تصادم قطارين في سوهاج في صعيد مصر الأسبوع الماضي، رأينا أمًّا أُطلق عليها أيضاَ اسم سيِّدة القطار. وتبدو قصتها، للوهلة الأولى، مؤلمة، وتدفعك إلى التأكُّد من أن الفن هو التجلي المحسوس للفكرة أو الروح، أي أنه تجسيد واقعي للفكر أو الوعي، حسبما ذهب الفيلسوف الألماني، هيغل، فهذه الأم اشتكت من عقوق ولدها الذي طردها من المنزل، وقصدت القاهرة؛ لكي تقيم في باحة أحد المساجد التي تعجُّ بها القاهرة القديمة، مثل مسجد السيدة زينب، ومسجد الإمام الحسين، فهناك لا يموت فقير من الجوع، بل يجد لقمته، وينام ليله؛ من إحسان المريدين والقاصدين هذه الأماكن تبرُّكًا ورجاء. وهنا نحن أمام روايات متضاربة، عن قصة سيدة قطار سوهاج للعام 2021، فبعض التحقيق والتدقيق في رواية السيدة أفضى إلى روايةٍ مخالفة، مفادُها بأن الأمهات أيضا قد يظلمن أولادهن، فهناك شهاداتٌ عن أمٍّ تستغل ابنها المعاق وتدَّخر راتبًا من زوج متوفَّى؛ ما يجعلك تقف وتصمت، ولا تتفاعل، وتفكر بأن عليك ألا تصدِّق كلَّ ما تسمعه من حولك، من طرف واحد، لحكاية تعتصر قلبك ألمًا، في تفاصيلها الأُحادية الجانب، هذا القلب الذي ينوء بثقل همومه الخاصة ومتاعبه، وعليك أن تترفَّق به، أوَّلًا.
حتمًا، تبدو رحلة القطار باعثةً جرعاتٍ من الخيال، بدءًا من قصص الأفلام القديمة التي جعلت من القطار محطة لقاء ووداع. وربما جال خيالك كثيرًا في مصادفةٍ جميلةٍ تجمعك براكب كرفيق سفر، وتخيَّل مدى جنوح خيال المراهق، أو المراهقة، بداخلك، وأنت تتخيَّل شابًّا وسيمًا أو فتاة حسناء تستبدل حقيبتك بحقيبته أو حقيبتها، داخل القطار، والنتيجة أن قصة حب هادئة تنشأ بين الطرفين. ولكن القطارات تحمل وجع الفقراء غالبًا، ومنظر عرباتها المكدَّسة يوجع قلبك، ويُسكت خيالَك المنطلق؛ لأن ضحايا حوادث القطارات دائمًا هم من الفقراء والفلاحين.
لفتني في حادثة القطار الأسبوع الماضي في مصر غير قصة الأم سمرة الراوي، أن كثيرين قد ربطوا بينها وبين حوادث أخرى، تلتها وسبقتها، وبين لعنة الفراعنة، وأن الحوادث المتتالية في مصر؛ من حرائق وجنوح سفينة في قناة السويس، وانهيارات مبانٍ، وغيرها، ما هي إلا اشارات إلى لعنة فراعنة قادمة؛ بسبب القرار الذي اتُّخِذ لنقل مومياوات من المتحف المصري، في ميدان التحرير إلى متحف الفسطاط، محطَّة أخيرة لها. وعلى الرغم من أن هذه المومياوات ما هي إلا بقايا لأجسادٍ بالية، إلا أن بعضهم يُحيل أسباب الكوارث الأخيرة المتلاحقة إلى غضبها، وليس إلى الفساد والاستهتار بأرواح الناس البسطاء، وغفلة الضمير، والركض خلف أهداف شخصية، بغضِّ النظر عن مصلحة المواطن، وروحه.