سيناء وسياسة التهجير من غزّة
المعروف أن العقيدة الصهيونية التي تقوم عليها دولة الاحتلال العنصري تستند إلى أركان محدّدة، هي، باختصار، التوسّع واحتلال أرض جديدة ضمن ما تُعرف بأرض الميعاد، وهذا يقتضي استمرار العدوان الدائم، والذي لا يتم إلا بمساعدة خارجية (عسكرية واقتصادية ودبلوماسية)؛ وباستراتيجية دعائية تُزوّر الحقائق وتحشد الجماعات اليهودية في الداخل والخارج، وتُوظّف الدين بشكل أساسي، بجانب دور الإعلام والتاريخ والمقرّرات التعليمية. ومعيار النجاح هو الحصول على أرضٍ جديدةٍ والتخلّص من أصحابها عن طريق التهجير القسري وجلب مستوطنين يهود إليها.
تاريخ دولة الاحتلال هو تاريخ هذه العقيدة، بالحرب تارّة (عبر حروبها التوسّعية في 1948 و1967 واعتداءاتها المستمرّة في لبنان والضفة والقطاع)، وبالسلام تارّة أخرى، فاتفاقيات التسوية مع حكومات مصر والأردن ومنظمة التحرير، سمحت لدولة الاحتلال التفرّع للتوسّع في الضفة، وحسب تقرير لمنظمة حقوقية إسرائيلية (بتسيليم) عام 2021 "تدير إسرائيل نظام تفوّق يهوديّ في كل المنطقة الممتدّة بين النهر والبحر، وحقيقة أنّها لم تضمّ الضفة الغربيّة رسميّاً لا تعيقها عن التصرّف هناك وكأنّها داخل حدودها، وخصوصا فيما يتعلّق بالاستيطان وتوظيف الموارد الهائلة لتطوير المستوطنات". أدت هذه السياسة إلى تضاعف الاستيطان أربع مرّات خلال مرحلة أوسلو، ففي 1992 كان هناك 172 مستوطنة جُلِبَ إليها نحو 248 ألف يهودي، ثم في عام 2023 وصل عدد المستوطنات إلى 444 مستوطنة وبؤرة استيطانية، يعيش فيها نحو 950 ألف مستوطن. هذا حصاد تحييد مصر والأردن، وتخدير الفلسطينيين وبقية المطبّعين بالحديث عن حلّ الدولتين، بينما لا مجال لإقامتها فعلا على أرض الواقع.
سياسة التوسّع معلنة، إذ لم يتوقّف قادة دولة الاحتلال عن الحديث عنها، ومن هذا ما كتبه مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، غيورا أيلاند، عام 2010؛ مُقترحا أحد حلَّين لتسوية القضية الفلسطينية، فإمّا فيدرالية أردنية/ فلسطينية، عبر إعادة تأسيس دولة الأردن على شكل ثلاث ولايات (ضفة شرقية، وضفة غربية، وقطاع غزة)، أو تبادل المناطق، أي تتنازل مصر عن 720 كيلومتر من سيناء لإقامة دولة فلسطينية في شكل مستطيل يمتد من رفح إلى العريش بطول 24 كيلومترا وعرض 30 كيلومترا، وهو ما يوازي 12% من مساحة الضفة الغربية التي تريد دولة الاحتلال ضمّها، وذلك مقابل حصول مصر على دعم اقتصادي دولي وأراضٍ بالمساحة نفسها في منطقة وادي فيران بالنقب.
تاريخ دولة الاحتلال هو تاريخ التوسّع واحتلال أرض جديدة ضمن ما تُعرف بأرض الميعاد، بالحرب تارة، وبالسلام تارّة أخرى
قامت ثورة في مصر في يناير/ كانون الثاني 2011، وبدا أن مصر ستقودُها حكوماتٌ ديمقراطيةٌ منتخبة، الأمر الذي هدّد مصالح أطراف عدّة، وفي مقدمتها دولة الاحتلال. لكن في 2013 تم إجهاض الثورة. وعلى الفور وبحجّة محاربة الإرهاب والأنفاق والهجرة غير الشرعية، أقام نظام ما بعد يوليو/ تموز 2013 منطقة عازلة بعمق خمسة كيلومترات، وسياجا عازلا ارتفاعه ستة أمتار وعرض قاعدته متر، وذلك على طول الحدود مع القطاع. وتم تنفيذ هذه السياسة على مراحل متعدّدة، وبموجبها جرى تهجير عشرات الآلاف من أهالي سيناء، وتدمير بيوتهم ومدارسهم وتجريف عشرات آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية. وكانت المنطقة التي تعرّضت للتهجير القسري ذات كثافة سكانية عالية، ومن عائلات كبيرة، كالسواركة والحويطات والأرميلات والسكادرة والترابين والدروب والعيساوية وغيرها. لقد مُحيت مدينة ضاربة في التاريخ هي رفح وتم تسويتها بالأرض، ثم اتّسع التهجير القسري ليضم مدنا وقرى أخرى. هذه العمليات وصفتها منظمة هيومن رايتس ووتش بأنها ترقى لجرائم الحرب، لأنها أدت إلى نزوح ما يفوق مائة ألف إنسان (نحو ربع سكان شمال سيناء).
تمت هذه العملية بإرادة منفردة تماما من رأس النظام، عبر قرارات منفردة صادرة منه أو من مجلس الوزراء التابع له مباشرة، بدأت بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1957 لسنة 2014، ثم قرار رئيس الجمهورية رقم 444 لسنة 2014 الخاص بتحديد المناطق المتاخمة لحدود الجمهورية، ثم تم تعديل قرار 444 بقرار رقم 420 لسنة 2021 لتوسيع ما تسمّى المنطقة "المحظورة" في شمال سيناء لتصبح بمساحة 2655 كيلومترا مربعا، حيث ضم مدينة الشيخ زويد و11 قرية تابعة لها، وسبع قرى جديدة تابعة لمنطقة رفح، ومناطق واسعة من مدينة الحسنة ومناطق أخرى بجنوب مدينة العريش.
وأحيانا، كان التنفيذ يسبق صدور القرارات، فمثلا بدأ العمل في بناء الجدار العازل قبل صدور القرار بعدة شهور، كما ورد في تقرير لمؤسسة سيناء لحقوق الإنسان في أكتوبر/تشرين الأول 2021. وهذا السياج بالمناسبة يُكْمل السياج الذي بدأت دولة الاحتلال إنشاءه على حدودها مع مصر بطول 245 كيلومترا قبل ثورة يناير، ثم سرّعت العمل فيه بعد الثورة، في ضوء خوفها من مجيء حكومة ديمقراطية منتخبة في القاهرة.
الحكومات التي تأتي بإرادة شعبية وقابلة للرقابة والمحاسبة هي التي يمكن ائتمانها على المصلحة العامة
ونرى، حاليا، سياسة التهجير القسري في غزّة بعد سنوات من الحصار وعدّة عمليات حربية ضدها، حيث يجري تدريجيا تهجير أهل شمال غزة إلى جنوبه، ربما تمهيدا لتهجيرهم من جنوب غزّة إلى سيناء. وفي الوقت نفسه، وبعد أسبوعين من العدوان الإسرائيلي على غزّة، في أعقاب عملية طوفان الأقصى، تقوم الحكومة المصرية بحملةٍ لا مثيل لها منذ عقود لدعم القضية الفلسطينية، حيث يتم تعبئة الحشود في كل محافظات مصر دعما لغزّة، ورفضا لمخطّط التهجير إلى سيناء. والسؤال هنا: هل يعبّر هذا التحرّك عن سياسةٍ مصريةٍ جديدة لصالح القضية الفلسطينية لمنع تصفيتها ومنع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء حقّا، وهو ما نتمنّاه، أم أنه جزء من سياسة خداع منظمة كالتي نُفذت بمهارة واسعة عام 2013 تحت شعارات استعادة الديمقراطية وإنقاذ مصر من الإخوان المسلمين وحماية الدولة المصرية، بينما كان الهدف الحقيقي إجهاض ثورة يناير وإعادة بناء النظام التسلّطي وقمع الحريات؟
ما نعرفه أن دولة الاحتلال منذ ظهورها وهي تتّبع سياسة الخداع ودبلوماسية المستعمر البريطاني (سمّيت آنذاك دبلوماسية الزنجي الأبيض، في إشارة إلى سياسة الوجهين أو المعايير المزدوجة)، كما أن القوى الداعمة لها وأتباعهما في المنطقة يمارسون السياسة نفسها: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون. وما نعرفه أيضا أن الكثير من الأنظمة العربية استغلت قضية فلسطين لتحقيق مصالحها الذاتية؛ فقد ظل شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" مبرّرا لمنع الديمقراطية وقمع الحرّيات، فكانت النتيجة هزيمة 1967. ونعرف أيضا أن أنور السادات وحسني مبارك اعتبرا أن معاهدة السلام ستُمكّن مصر من التفرغ للتنمية الاقتصادية، وتعمير سيناء، ولم يحدث هذا ولا ذاك. كما اعتبر أنصار أوسلو أنها ستؤدي لدولة فلسطينية مستقلة وتحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين، بينما تم تغيير الواقع على الأرض بحيث يكون حلّ الدولتين مستحيلا.
وعموما، وفي الحالتين، لن يوقف أي مخطّطاتٍ لتصفية القضية الفلسطينية، بعد إرادة الله عزّ وجل، إلا صمود المقاومة ودعمها بكل الطرق الممكنة دبلوماسيا وعسكريا وإعلاميا، واستعادة الشعوب ثوراتها، وخصوصا في القاهرة قلب العالم العربي، وغيرها من العواصم العربية الرئيسية، فالحكومات التي تأتي بإرادة شعبية وقابلة للرقابة والمحاسبة هي التي يمكن ائتمانها على المصلحة العامة.