"سيلفي" مع دراكولا سورية
البلادُ التي بيعت رخيصة بالكاد بلغ ثمنها سعر تكلفةِ أن يظلَّ بشار الأسد رئيساً لعصابة تتهجّم على حياة الناس كلَّ يوم، وتسنّ القوانين المناسبة لإتمام ذلك بلا خجل، وهي أيضاً البلادُ الحالمةُ بوجهٍ جديد لها غير مصاب بآفة الأسد الحاكمة.
لكن الحلمَ بضاعةٌ لا تشتريها الدول صاحبة القرار في الشأن السوري، تلك التي تريد أن يبقى "دراكولا" سورية مديراً تنفيذيّاً للسياسات الدولية الكبرى في المنطقة، وأولها تفتيت سورية، وإعادة إنتاجها ضمن كياناتٍ جغرافيّة أو إثنيّة، أو كليهما معاً، وجَعْلِها مصنعاً كبيراً لإنتاج مباهجِ المخدّرات المتعدّدة. وفي هذا وظائفُ سياسية غير مرئية، تكمن في تهديد دول الجوار بإمكانية وقوعها المتكرّر داخل مصائدِ كبتاغون الأسد كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وأيضاً إفساحُ الطريق أمام النفوذ الإيراني، والتلويح به خطراً لا يقلّ فتكاً عن شرور مخدّرات الأسد العابرة للحدود والأخلاق.
لم يقف كلُّ هذا الابتلاء حائلاً أمام رغبة السوريين المعارضين حكم عصابة الأسد من أنْ يعكفوا في شهر مارس/ آذار من كلّ عام على إحياء الذكرى السنوية للثورة عليه حين بدأت عام 2011. يحاولون التحايل على أسباب إخفاق ثورتهم بتجديد "لوغو" المناسبة سنوياً، واستحضار سيرة إبراهيم القاشوش وعبد الباسط الساروت في غنائيات تحدجُ الإخفاق، وتشير إلى مرحلة سابقة كانت مُخصّبة بالحلم وبالمعاناة، إذ لطالما جاء القدرُ معانداً لدفن "دراكولا" سورية، وهذا تجاهلٌ جاء برعاية مزاجٍ سياسي أميركي كان عقيماً، لا ينجب أفكاراً تُدّرُ تدابيرَ ضرورية لإتمام ذلك الرحيل المنطقي لحاكم سورية المختلّ، وبأسرع وقتٍ ممكن. غير أنّه بقي حيث هو، طوال تلك السنوات، يحقن بحميميّةٍ فائقة مزيداً من "البوتوكس" تحت جلد وجهِه اليابس، يفعل ذلك كما لو أنه يستعير من أحمر شفاه رخيص تريّثاً إضافياً ليداري به عُسْرَ لون البشرة، وانهياراتها المتلاحقة داخل تجويفات حمقاء لا تحمل سوى دلالاتٍ متقنةٍ من الخوف والعجز.
بقيت انتفاضة السويداء صياحاً مفرد التكوين، لكن سخاءها المتمثل بالمواظبة عليها جعلها كفيلةً بمداواة صمت السوريين في باقي مناطق سيطرة النظام
استقبل السوريون هذه المرّة الذكرى الثالثة عشرة للثورة السورية ضد بشّار الأسد، مع إضافةٍ غير منتظرة، جاءت بها انتفاضة السويداء المتواصلة بلا انقطاع منذ منتصف شهر أغسطس/ آب الماضي، ومع أنّ انتفاضة السويداء بقيت صياحاً مفرد التكوين، لكن سخاءها المتمثل بالمواظبة عليها جعلها كفيلةً بمداواة صمت السوريين في باقي مناطق سيطرة النظام. كما أنَّ انبثاقها المفاجئ جعلها تُشعر النظام السوريّ ورأسه المريض بأن البلاد التي تمَّ قتلها، ثم دفنها، تستطيع أن تُنجب مجدّداً، ومن صوتها المزيدَ من الحراك السياسي الرافض صيغة الحكم الحالية، حتى وإن كان هذا الرفض يشبه صراخاً يزعج بشّار الأسد ويُرهق أعصابه، لكنه، في هذه المرّة، جاء من مكانٍ يجد فيه النظام السوري بأدواته الأمنية والعسكرية ما يُجبره على التريّث أو حتى الصمت، فلا يستطيع الادّعاء كما اعتاد الادّعاء سابقاً أن سلفيينَ وإرهابيين مأجورين يريدون الاستيلاء على عرش الأسد، وحكم البلاد بدلاً منه، إذ إنه يواجه منذ سبعة أشهر ثوّاراً من أقلية مذهبيّة لطالما ادّعى أنه يحميها ويحمي سواها من "خطر" الإسلام المتشدّد الذي ينوي ابتلاع البلاد، وسلب خصوصيّة أقلياتها.
بقيت إذاً انتفاضة الدروز بمفردها، لا تتّكلُ على مكونات أخرى في الفضاء الاجتماعي العام للبلاد لمساندتها، باستثناء وثيقة المناطق الثلاث، والتي أُعلِنَ عنها في 8 مارس/ آذار، وفيها تَضَامنَ ريف حلب الشمالي، ودرعا البلد، مع انتفاضة السويداء. وتحدّث بيان الوثيقة المشترك بإسهابٍ عن نقاط أساسية تعكس هوية الثورة السورية، منها تأميم السياسة وتخليصها من احتكار الطغمة الحاكمة، والتأكيد على الحقوق الوطنية الأساسية، مثل الحياة، والحرية، والأمان، والكرامة، وكذلك رفض التقوقع المناطقيّ، باعتبار أنّ سورية واحدة ولكلّ أبنائها، وأيضاً أشار البيان إلى ضرورة التنسيق والحوار والعمل المشترك. وقد يكون الأثر المعنوي لهذه الوثيقة على انتفاضة السويداء لجهة رفدها بمزيدٍ من الاعتبارات الوطنية الجامعة، هو الأثر الأكثر أهمية مقارنةً مع باقي مكونات سردها.
لا يريد بشّار الأسد من قرارات دمجه إلا أن يغازل الإصلاح من باب المخادعة، يريد شكلاً إصلاحياً منقوص المضمون
ما يحدُث في سورية، تلك البلاد المهترئة بالكامل، يبدو غير كافٍ لأنّ يحثَّ لسان بشّار الأسد ويستنهضه على النطق، فيستعرض لنا في سرديةٍ معتادة، حتى وإن كانت بحبكةٍ مهلهلة ومضحكة، التضاريسَ السياسية الجديدة في سورية، فهو لم يتناول في إطلالاته الإعلامية القيّمة انتفاضة السويداء ضدّه، وكأنها حدثٌ غير مرئيّ بالنسبة له، في وقت يجد فيه هذا الدراكولا فسحةً آمنة لالتقاط مزيدٍ من صور "السيلفي" في قصر المهاجرين (أحد القصور الرئاسيّة) مع ممثلين سوريين أغراهم هلال الإنتاج الرمضاني، فقبضوا بصورةٍ مسبقة إيرادات الشهر الفضيل. كما ويستطيع أيضاً رئيس هذه الجمهورية منزوعة السيادة أن يسخر من العالم المتحضّر فيدمج أمام عينيه جهازي الأمن العسكري والمخابرات الجوية في جهاز استخباراتيّ واحد تحت مسمّى مخابرات الجيش، وكأنه ارتكب بذلك إصلاحاً كاملَ الأركان يتيح له أن يتباهى بفضائله، وهو مجرّد دمج إداري، مثل الذي حدث بدمج أجهزة الشرطة والأمن الجنائي، والأمن السياسي في جهاز واحد، علماً أن تلك الأجهزة تتبع أصلاً إلى وزارة الداخلية، فلا يريد بشّار الأسد من قرارات دمجه تلك إلا أن يغازل الإصلاح من باب المخادعة، يريد شكلاً إصلاحياً منقوص المضمون، أو من دون مضمونٍ من الأساس.
"الكونت" بشّار الأسد تفوّق على "الكونت" دراكولا، واجتاز تلك الشخصية الدموية، وسبقها بمراحلَ عديدة
أصدر الكاتب الإنكليزي برام ستوكر، في عام 1897، روايته "دراكولا". استلهمها من شخصية فلاد الثالث المعروف باسم الكونت دراكولا حاكم مقاطعة والاكيا في رومانيا. ولاحقاً، تحوّلت الرواية إلى صيدٍ ثمين لصنّاع السينما، وهي بالفعل صارت كذلك، منذ تحوّلت من نص سرديّ كتابيّ إلى سردٍ بصريّ ملحّ ومتعدّد الدلالات. تلك الشخصية ذائعة الصيت، والتي تقتات في الظلام على دماء ضحاياها، تشبه في مضمونها التشريحي شخصية حاكم مقاطعة سورية المفيدة في أيامنا هذه، بل إن "الكونت" بشّار الأسد تفوّق على "الكونت" دراكولا، واجتاز تلك الشخصية الدموية، وسبقها بمراحلَ عديدة، فثمن عرشه الحالي جمعه من دماء السوريين، وعذاباتهم الملحّة، في داخل البلاد وخارجها. وهو، وبخلاف دراكولا الحقيقي، ليست الدماء عنده غذاءً عضوياً ضرورياً للبقاء، وإنما ثمناً مجازياً لبقائه رئيساً لبلادٍ صارت بلا دورةٍ دموية، وكأنها أيضاً فارقت الحياة عشرات المرّات، وكانت تفعل ذلك في كلّ مرّة يظهر فيها "الكونت" بشّار الأسد بصحبة من يعتقد بأن التقاط صورة "سيلفي" معه هي حادثة ممتعة للغاية، وذات معانٍ عميقة في هذا العرض السينمائي الكبير، والذي لا يتوقّف أبداً.