سيادة القانون وقانون "سيادته"
لا تقول الدول المتحضّرة والديمقراطية إنها تطبق "سيادة القانون"، ولم يحدُث، في أي دولةٍ يتمتع شعبُها بالحرية وينعم فعلياً بالعدالة، أن احتاج إلى التلقين والتأكيد أن سيادة القانون قائمة ومفعّلة. وذلك ببساطة شديدة لأن التطبيق العملي يُغني عن أي كلام أو دعاية. أما الإلحاح الإعلامي على عقول المواطنين وقبولهم لتأكيد الشعارات وترديدها مراراً وتكراراً عن نزاهة العدالة وتجرّد الأجهزة العدلية والتنفيذية، وأن الكل سواسية أمام القانون، فلا يكون إلا في الدول التي تفتقد بالفعل سيادة القانون جوهراً وعملاً، لا مظهراً وقولاً.
ولدينا في دولنا المنكوبة أمثلة عديدة على هذا التناقض بين التغنّي بسيادة القانون والتشدّق بها في الإعلام وقاعات الدرس الأكاديمية، وانتهاكها شكلاً ومضموناً في الممارسة العملية وعند التطبيق الفعلي. وللأسف، لم يعد هتك عرض القوانين، بل والدساتير أيضا، جريمة استثنائية محصورة في دوائر الحكم وكبار المسؤولين، فقد انتقلت تباعاً إلى المستويات الدنيا في المجتمع. وتفشّى إهدار القانون في كل المجالات والقطاعات، بما فيها التي لا يتوقّع أحد خروجها من منظومة العدالة والمساواة.
ربما يمكن فهم (أو حتى تبرير) الصفقة التي أبرمت في مصر مع رجل أعمال شهير (مثل نجيب ساويرس) وتسوية مديونياته الضريبية، بتسديد بضعة ملايين والتغاضي عن مليارات كانت مستحقّة للدولة، أو تخصيص ملايين الأفدنة من الأراضي لمجموعة إنشاءاتٍ كبيرةٍ بسعر زهيد، رغم أن الدولة نفسها تتعامل مع المستثمرين الصغار والمواطنين العاديين بمنطق رأسمالي، فتبيعهم الأراضي أو العقارات بثمنها السوقي متضمّناً نسبة التربح.
أما ما يصعب استيعابه فهو أن تتعامى سيادة القانون عن عشرات البلاغات بالسبّ والقذف وخدش الحياء ضد رئيس نادٍ رياضي. وحين تحقّق لجان رسمية في مخالفاته المالية والإدارية، وترفع تقاريرها إلى الأجهزة العدلية المختصة، يتم حفظ التحقيقات من دون الكشف عن نتائج التحقيق، لا بالإدانة ولا بالتبرئة. وبعد تفعيل واحد فقط من عشرات البلاغات (التي كانت مجمّدة) ضد الشخص نفسه، يصدُر بحقّه حكم قضائي نهائي بالحبس. لكن الحكم لا ينفّذ إلا بعد أشهر من صدوره، كان المحكوم خلالها معلوم المكان، بل وكان يتحرّك علناً ويظهر في الإعلام. وفيما يفرض حكم القضاء عزل المحكوم من رئاسة النادي، يتجاهل الجميع ذلك، ويظل الرجل يمارس مهامه من دون توقيعات رسمية. بل ويفوّضه مجلس الإدارة إدارة شؤون النادي بصلاحياتٍ مطلقة من دون الرجوع إلى المجلس نفسه!
في سياق آخر، تم توقيف ممثلة شهيرة لدى عودتها من خارج البلاد لجلبها كميّة من المواد المخدّرة المجرّم تعاطيها وليس فقط الاتجار بها، فأحيلت إلى القضاء بشكل عاجل، ومن الجلسة الأولى للمحاكمة، صدر بحقها حكمٌ مخفّف بالحبس عاما "مع إيقاف التنفيذ". ووفقاً لنصّ الحيثيات التي أعلنها القضاء، سبب التخفيف وإيقاف التنفيذ "اعتقاد" المحكمة أن المُدانة "لن تعود إلى مخالفة القانون مستقبلاً". ولا حاجة هنا إلى توضيح الاختلاف الشاسع، لو أن المُدان شخص عادي، فلا مكان حينئذ للتسامح ولا مسوّغ لأن تفترض المحكمة فيه عدم تكرار الجرم المشهود.
إذن، لا يطبّق القانون على الجميع بالشكل والكيفية نفسيهما. والمعيار هو وزن الشخص في المجتمع ومدى قوّته، سواء بالنفوذ أو بالثروة أو بالعلاقات. وليس بعيداً عن ذلك إصدار عفو رئاسي عن قتلة ورجال عصابات مأجورين. عمل أحدُهم سابقاً في جهاز أمني حسّاس، وعُرف آخر بممارسة البلطجة واستخدام القوّة لحساب آخرين. ولا عزاء بالطبع لسيادة القانون، إذ أطيح ولم يسُد.
لا يتعلّق الأمر، إذاً، بسيادة القانون ولا بالعدالة، وإنما بالقانون الذي يسود، وهو الحصانة والحماية فقط لمن يحمل لقب "سيادته".