"سور برلين" الليبي
في غمرة الانشغال المستحقّ بالحرب في فلسطين المحتلة، تشهد ملفّات عربية أخرى تطوّرات خطيرة تنذر بعواقب وخيمة، وبخاصة في ليبيا. وتواترت في الأيام القليلة الماضية أنباء عن منعطف مهم سيشهده الوجود العسكري الروسي في ليبيا، وتشير المعلومات إلى تحرّك "رسمي" روسي لإعادة هيكلة مليشيات فاغنر في ليبيا إلى وجود عسكري رسمي أُطلق عليه "الفيلق الأفريقي"، والغرض أن تنطلق منه قوات عسكرية روسية إلى خمس دول في إطار مساعي روسيا إلى تكريس نفوذها في أفريقيا.
المعلن أن الجنرال خليفة حفتر وضع حجر الأساس للمشروع خلال عدة لقاءات في بنغازي وموسكو مع مسؤولين روس، ولا يزال موقف برلمان طرابلس من هذا التطوّر (حتى اللحظة) غائمًا، حيث لا إعلان واضحا عن إقراره الاتفاق، ولا إدانة واضحة لما ينطوي عليه من انتهاك صارخ للسيادة الليبية. وتحمل الفكرة في طياتها مخاطر واسعة داخليًا وإقليميًا، فالتقاطعات بين مصالح سلطات شرق ليبيا ومصالح أطراف في صراعات مسلحة في جوار ليبيا معقّدة، ويشمل ذلك الصراع في السودان وتشاد بصفة خاصة. في الوقت نفسه، يُنذر إضفاء مشروعية الأمر الواقع على وجود عسكري روسي رسمي في ليبيا بتهديد العملية السياسية الليبية بالكامل، والموقف الرسمي الروسي "العلني" الداعم للاستحقاق الانتخابي يتناقض تناقضًا تامًا مع الموقف الروسي الفعلي.
وسيكون إجهاض المسار الانتخابي في ليبيا، وهو خطر فعلي قائم، أول لبنة في بناء "سور برلين الليبي"، ما يعني، جزئيًا، إعادة إنتاج نموذج تقسيم برلين بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا حدث هذا سيدفع الشعب الليبي ثمن استعداد سلطات شرق ليبيا لفتح الباب لانتهاك سيادة الدولة الليبية، مقابل تكريس الانقسام الليبي وحمايته واستدامته، طالما أن الاحتكام إلى صناديق الانتخابات يهدّد مصالح بعضهم. والانقسام خلال السنوات الماضية منح دولًا في الإقليم وخارجه فرصة التدخّل في الشأن الليبي بأشكال التدخل كافة، وأصبحت القضية الليبية تتنقل بين ملتقياتٍ سياسية خارج البلاد (الصخيرات، برلين، القاهرة)، ومن كل مسار خرجت "مقرّرات"، وقبل كل ملتقى تقاذف الشركاء اتهامات بالافتقار إلى الشرعية.
سيدفع الشعب الليبي ثمن استعداد سلطات شرق ليبيا لفتح الباب لانتهاك سيادة الدولة الليبية، مقابل تكريس الانقسام الليبي وحمايته واستدامته
والوجود العسكري الروسي (المليشياوي والرسمي) في ليبيا مؤثّر فاعل في تطورات الوضع الداخلي، وفي إحدى جولات المواجهة العسكرية كان مرتزقة فاغنر فاعلًا أساسيًا في قدرة قوات شرق ليبيا على الوقوف على مشارف طرابلس، وثمّة من يرى أن دخول تركيا "عسكريًا" على خط الأزمة الليبية لا ينفصل عن التأثير الكبير للدور العسكري الروسي في ترجيح كفّة أحد الفريقين ليتمكّن من الحسم العسكري. واليوم، أصبح هناك ما يمكن اعتبارها "خطوطا حمراء" تتّصف بقدر كبير من الوضوح والثبات، وهي، إلى حد كبير، ضمنت استبعاد الحل العسكري، وأخرجت النفط من دائرة التنازع، لكنها (بقصد أو بغيره) كرَّست الانقسام، وجعلت توحيد مؤسّسات الدولة الليبية واستكمال المسار الانتخابي أكثر صعوبة، وما ورد في حوار رئيس الوزراء الليبي، عبد الحميد الدبيبة، في منتدى ليبيا الإعلامي، دقّ مزيداً من أجراس الإنذار، ونبّه إلى مزيد من المخاطر. ومن أخطر ما في حوار الدبيبة حديثه عن مسوّدة دستور ليبي في حوزة رئيس برلمان طبرق، وحديثه عن مليارات الدولارات استدانتها الحكومة المكلفة من برلمان طبرق لتمويل ميزانيّتها، وتأكيده أنه لن يسلّم السلطة إلا لمن يستحقّها، وعندما سئل عن الجهة التي ستكون مخوّلة للحكم على أنها تستحق، قال إن الشعب الليبي هو الحكم عبر الصناديق.
تصريحات الدبيبة "مُفخَّخة"، وتخفي أكثر مما تعلن، فهناك توافق واسع على ضرورة تشكيل حكومة جديدة تتولى تنفيذ استحقاقات المسار الانتخابي، ولقاءات الفرقاء الليبيين أخيرا فشلت في تحقيق الحد الكافي من التوافق، وفي حال أضيف إلى هذا الوضع المتردّي وجود عسكري روسي رسمي فستكون العواقب كبيرة، وإذا صحّ أن وجود مليشات فاغنر في ليبيا سبب "رئيس" في منع الاحتكام إلى صناديق الانتخابات (وهذا تصريح رسمي لمسؤول أميركي)، تكون ليبيا مهدّدة بأن تدفع ثمن صراعات دولية وإقليمية تتجاوز حدودها، وثمن رغبة كيانات في الاحتماء وراء "سور برلين ليبي" يحميه وجود عسكري روسي. وسيغيّر هذا المعطف توازن القوى الإقليمي، لكن الأهم أن يدرك الليبيون جميعًا أن مستقبل بلادهم في خطر.