سورية وخطأ الحرية الفادح
هل أثمرت حفلات التفاؤل الإعلاميّة التي كان نظام بشّار الأسد يروّجها بشأن عودة العلاقات ما بين نظامه وبعض الدول العربية؟
نستطيع النظر إلى الوضع الاقتصادي على الأرض. هناك استمرار في انهيار العُملة السورية، يقابلها صعود، مجدّداً، للمظاهرات في السويداء ودرعا جنوب البلاد. إنّها مظاهرات تطالب برحيل الأسد ونظامه. بالتالي، الثمار التي يمكن ملاحظتها هي بمثابة فقّاعات، من دون فاعلية، النّاس هناك لا يعنيهم التطبيع مع الأسد وتجارته السياسية. وإذا كان السؤال عن ثقافة الرفض في سورية ما يزال قائماً، فمن المُجدي قليلاً التوقّف عند ذهنيّة هذا النظام، والتي تعتبر الرفض خطيئة، تشيطن من يتبنّاها، ثمّ تشرعن قتله. ولا تكون مبالغةً إذا اعتبرنا أن الدول العربية التي غفرت للنظام جرائمه ضد السّوريين، وحاولت أن تعيد التطبيع، إعلاميّاً أو أمنياً، معه، ستجد أيضاً من يغفر لها جرائمها ضد معارضي أنظمتها.
وبالرغم من النتائج المدمّرة التي جعلت سورية ساحة حربٍ لدول تبحث عن مصالحها الاستراتيجيّة في المنطقة، إلا أنّ مُناهضة نظام الأسد لم تمت بعدُ. لم تأخذ الناس على الأرض؛ تحرّك الأنظمة العربية، ذاك، على محمل الجدّ، ويبدو أن رغبتهم في الانتفاض لم تخمد، ثمّة مناخٌ عام في سورية لم يهتم بإعلام النظام والتطبيع مع الأسد. ذلك المناخ الذي يدعونا إلى التأمل في النضال الشعبيّ، واستخدام لغة النزول إلى الشارع، رغم كلّ الخسائر الكبيرة، إذ لم يعد لدى المرء في الداخل السوريّ ما يخسرُه في ظلّ التعامل العقابيّ الذي يعكس أساليب الاستهانة المستمرّة بآلام السّوريين وبكرامتهم من كلّ الجهات.
لو حاولنا قراءة ما يريده نظام بشّار الأسد من تكريس صورة الخطيئة في مفهوم الثورة وأفعالها، فإنّنا نقع على ظاهرة تجسّد التكفير عن تلك الخطيئة، والتي يسمّيها إعلام الأسد "المصالحات الوطنية"! وكأن الرفض في سورية يشكّل خللاً لا يُحتملُ استيعابُه في ذهنيّة التربية الأمنيّة للنظام؛ والتي تنصّ على إلزاميّة تجييش جميع الناس تحت الشّعارات التي تشّيعها السلطة لتبرير نفوذها وأفعالها.
ويمكن اعتبار أيّة محاولة فردية أو أهلية، خارج النظام، تمرّداً، يجب سحقُه، سواءً كان تمرّداً سلمياً أو مسلحاً أو حتّى فكريّاً.
أنشأ النظام في سورية كيانات شبه رسمية، بصبغة أمنية، تُدعى "مراكز المصالحة" والتي يغيب فيها أي حياد واقعيّ
ولتعزيز نظريّة "مكافحة الخطيئة" في سياسة النظام، أنشأ الأخير كياناتٍ شبه رسمية، بصبغة أمنية، تُدعى "مراكز المصالحة"، والتي يغيب فيها أي حياد واقعيّ، إذ يمكن لصور بشّار الأسد، المرفوعة في كلّ مكان أن تختصر المشهد مع عبارة "الأمان معك".
هناك في المناطق التي لا تزال تهدّدها الاغتيالات والمُلاحقات الأمنيّة للمعارضين الذين قرّروا القتال ضدّ النظام وضد حلفائه؛ ثمّ استغنت عنهم الجهاتُ المُموّلة والداعمة، سواءً الخارجيّة أو الداخليّة، فتُركوا لمصير مجهول، أو ربّما استسلموا وتعبوا..
يقفون جميعاً، يطلبون "الصّفحَ" عن ثورتهم، تصوّرهم العدسات "الرسمية" لتصنع منهم مادّة لدعاية العودة إلى "الحالة الطبيعية" للمواطن، وهذه الحالة هي البقاء تحت حكم الأسد. ذلك على الأقل ما ألمحت له رؤية وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، حيث قال: "سورية ركّزت على التسويات والمصالحات كطريق لإعادة الأوضاع إلى طبيعتها"، وذلك قبل بضعة شهور، ضمن مؤتمرٍ دعت إليه روسيا من أجل عودة اللاجئين والنازحين إلى سورية.
ولا تقلّ عودة الأمور إلى "طبيعتها" إشكاليّة عن تصريح مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسورية، غير بيدرسون، الذي قال إنّ "احتياجات الشعب السوريّ وصلت إلى أسوأ المستويات منذ بدء الصراع"، وذلك في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الفائت.
واستمراريّة العودة، تلك، تصنّفها وكالة الأنباء السورية التابعة للنظام على هذا النحو: "بنود التسوية التي طرحتها الدولة" حيث انضم مطلع شهر حزيران/ يونيو الفائت نحو 2200 مواطن "لعملية التسوية"، وتلك الآلاف "تؤكّد أنّ أبناء محافظة درعا عازمون على العودة إلى الحياة الطبيعية". ولكن ماذا بشأن عشرات نقاط التظاهر في السويداء ودرعا والرقّة التي تفنّد هذه الرواية الآن؟
ما سنشهده لاحقاً في المشهد السوريّ قد يذهب أبعد بكثير من رغبات الهجرة والبحث عن فرص أخرى للحياة في بلاد آمنة
لقد نمت في المخيّلة السورية، اليوم، وبعد أكثر من عقد من انطلاق الثورة، ثقافة الرفض والتظاهر، مهما كان انتماء السوريّ ومرجعيته. بتنا نرى هناك حتّى المؤيدين لنظام الأسد وقد تعلّموا كيف يقولون "لا" في لحظات حصارهم. معظم الأحيان، بات الجميع يسجلون مقاطع فيديو على اختلاف جرأتها، وقاسمها المشترك بذرة تحطيم الخوف التي زرعته ثورة مارس 2011 في المجتمع.
لم تعد "المصالحات" تعني شيئاً، ولا حتى القتل له قيمة، لأنه لدى مئات الآلاف أسباب كثيرة للموت، ليس منها الخوف من النظام، طالما اعتادوا على مصير واحد؛ إمّا العيش بكرامة أو لا. ... أيّة سلطة ذات نفوذ عسكريّ وتاريخ دمويّ سوف تعتبر الحريّة خطأً فادحاً. ونموذج النظام السوريّ؛ بعد كلّ الانهيار في البلاد على مستوى المجتمع والانقسامات المناطقيّة وولاءات الدول المحرّكة للملف السوريّ، تُراه فشل في تكريس مفهوم أن الخروج عن طاعة الأسد هو انتحار حتميّ؟.
لقد وصلت حالة المكاشفة للمطالب الشعبية إلى النضوج في الوعي الجمعيّ، وما سنشهده لاحقاً في المشهد السوريّ قد يذهب إلى أبعد بكثير من رغبات الهجرة والبحث عن فرص أخرى للحياة في بلادٍ آمنة، مقارنة مع سورية، لأن السّوريين، هناك على أرضهم، تحت خط الفقر السياسيّ والمعيشيّ، يعلّموننا كلّ يوم كيف يمكن للتغيير أن يحدُث، وقد باتوا أمام خيارٍ واحدٍ، أن يعودوا إلى الشارع لـ"تصحيح خطأ الموت" حسب ما قالت، يوماً، الشّاعرة الرّاحلة دعد حدّاد، تصحيح ذلك الخطأ السوريّ الذي جعله نظام الأسد ذريعةً لتدمير كلّ من يرتكبه دفاعاً عن كرامته.