سورية... موسم الهجرة نحو لبنان!
تصاعد في لبنان، أخيرا، الحديث عن موجات "نزوح" ولجوء سوري كبيرة وواسعة نحو الأراضي اللبنانية، حتى إنّ وسائل إعلامية تحدّثت عن آلاف السوريين الذين يعبرون بطرق غير شرعية وقانونية من سورية، ومن مناطق النظام تحديداً، نحو الداخل اللبناني. وقد ترافقت نبرة الحديث عن كثافة اللجوء مع تحذيرات من مخاطر وجودية على لبنان وعلى مكوّناته، صرّح بها قادة ومسؤولون لبنانيون، حزبيون وسياسيون رسميون وغيرهم، على اعتبار أنّ تعاظم اللجوء السوري في لبنان يشكّل خطراً على لبنان الدولة والنظام والكيان، في حين يتجاهل هؤلاء، عن عمد أو عن غير عمد، أنّ الخطر الحقيقي الذي يتهدّد لبنان، الدولة والكيان والنظام، هو سياساتهم التي أوصلت لبنان إلى هذه الحالة من التردّي والتخلّف على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية وغيرها.
ما يعانيه السوريون في بلدهم اليوم، وما وصلت إليه الأوضاع هناك، وكما هو معلوم، جرّاء السياسات التي اتُّبعت على مدار العقود الماضية، ودفعتهم دفعاً إلى الثورة من أجل الكرامة والحرية ولقمة العيش، وقد جرى استخدام الحلول الأمنية والعسكرية التي حوّلت سورية إلى أثر بعد عين، فدمّرت كلّ شيء فيها، وصولاً إلى إحراق البلد كرمى لعيون القائد الذي أراد أن يبقى إلى الأبد، وقد حصل هذا فعلاً. وعندها وجد السوريون أنفسهم أمام بلد مدمّر ومحروق، لم يعد فيه شيء مما كان غنيّاً به، وأمام الواقع الجديد الذي باتوا يبحثون فيه عن لقمة عيش لا يجدونها، ولا يجدون قارورة غاز يطهون على نارها طعام أطفالهم، ولا صفيحة مازوت تقيهم برد الشتاء، اضطرّوا إلى ركوب موجة الهجرة بحثاً عن أمن مفقود، وفراراً من جوع حقيقي راح يلتهم أجساد أطفالهم وعجائزهم يوماً بعد يوم، علّهم يجدون في مكان آخر أمناً وأماناً ودفئاً ولقمة كريمة، غير أنّ المأساة أصرّت على مرافقتهم، فأُقفلت الحدود بوجههم في كلّ نواحي الأرض إلا باتجاه لبنان الذين يعاني فيه اللبنانيون مما يعاني منه السوريون، لكنّه الأمل يدفع أيّ غريق للتمسّك ولو بقشّة.
السوريون الفارّون من جحيم الجوع هذه المرّة لم يجدوا في لبنان القشّة التي يمكن أن تنقذهم، ولا الحضن الدافئ الذي يمكن أن يقيهم البرد، ولا الملاذ الآمن الذي يشعرون فيه بالأمان
غير أنّ السوريين الفارّين من جحيم الجوع هذه المرّة لم يجدوا في لبنان القشّة التي يمكن أن تنقذهم، ولا الحضن الدافئ الذي يمكن أن يقيهم البرد، ولا الملاذ الآمن الذي يشعرون فيه الأمان. على خلاف ذلك كله، وجدوا مأساة مستمرّة، وسمعوا حديثاً عن تهديد وجودي بسببهم، حتى إنّ هناك من راح يطالب بإعادتهم إلى قراهم دونما اعتبار لمأساتهم، رافضاً أيّ تعامل إنساني معهم، وصولاً إلى قطع الكهرباء عن بعض مخيّماتهم أو ترحيلهم دونما اعتبار لما يمكن أن يصيب الأطفال والنساء والعجائز، فيما وجد آخرون الحلّ عبر ترحيلهم بالسفن والبواخر نحو أوروبا أو نحو أصقاع الأرض حيث المجهول، أو ربما حيث الموت غرقاً أو تشريداً أو تفتيتاً للعائلات والأسر، متغاضين عن السبب الحقيقي وراء هذه المأساة الإنسانية المتمثّل بالحلول الأمنية والعسكرية التي أوصلت سورية إلى ما وصلت إليه.
أبشع ما في التعاطي اللبناني مع مسألة اللاجئين أنّه بات مجرّداً من كلّ المعاني الإنسانية والأخلاقية، وبات خاضعاً للاعتبارات السياسية والمصلحية فحسب، في حين أنّ المطلوب، وبسبب المعاناة المشتركة بين اللبنانيين وبين اللاجئين، أن يكون الشعور معهم وفهم معاناتهم أكثر تقبّلاً، والعمل معاً من أجل الخروج من هذه المأساة أكثر تعاوناً وانسجاماً. ولذلك ليس مقبولاً أن تتصاعد العنصرية تجاه أولئك أو غيرهم، وليس مقبولاً تحوير المسؤوليات، بحيث يتم تجاهل الأسباب الحقيقية لما جرى ويجري، وبالتالي القفز فوقها من أجل بناء موقفٍ على نتائج هي في حقيقتها من تداعيات تلك الأسباب، لا لشيء إلاّ لأنّ بعضهم لا يريد أن يعترف بالحقيقة ويستمر في المكابرة، حتى لو أدّى ذلك إلى هجرة السوريين نحو المجهول.