سورية تعود إلى نفسها

30 ديسمبر 2024
+ الخط -

من السابق لأوانه أن نتحدّث عن مخاوف من "فوضى خلّاقة" في سورية، وفق المصطلح الأميركي للديمقراطية في الشرق الأوسط. كذلك، فإن استخدام "الشرق الأوسط" مصطلحاً جغرافياً للمنطقة العربية تجريد للمنطقة من عروبتها، وسكوت عن تغلغل أطراف إقليمية (إيران وإسرائيل وتركيا) لتعبئة الفراغ الذي تركته (ولا تزال) الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج، ذات الثقل الجغرافي والسياسي والديمغرافي والاستراتيجي في حياة هذه الأمة وشعوبها. وتعدّ سورية تاريخياً أحد مراكز الثقل هذه، رغم تهميش متعمّد لدورها في عهد النظام الأسدي، الأسود والبغيض.
من السابق لأوانه تحرّي السيناريوهات الدولية والإقليمية والمحلّية التي تُبيَّت لسورية، أو الضوء الأخضر الأميركي في ما حصل، فالزمن زمن الفرح، فرح سقوط الطاغية المجرم بشّار الأسد. فتلك فرحة لا تضاهيها فرحة ربّما، إلّا فرحة تحرير فلسطين، التي لا نعلم إلى متى ننتظرها. لكنّ هذه الفرحة السورية الغامرة امتزجت أيضاً بالغصّة ممّا كشفته وتكشفه السجون الأسدية من آلام كانت تختزنها، وراء جدرانها وفي أقبيتها، كنّا ندركها ونحسّها، بل نتخيّلها، لكن ما كان يحدث في الواقع فاق مخيلاتنا كلّنا. قد نحتاج إلى 55 عاماً من الحكي والسرد والبوح حتى يُفرّغ كلُّ معتقل ومعتقلة ما اختبروه من آلام وتعذيب ومهانة، منذ لحظة الاعتقال وحتى لحظة تحطيم أبواب السجون، واكتشاف ما كان يجري وراءها، فلم يقتصر الدمار على الأبنية، بل طاول كلّ شيء يمكنه أن يشبع نهم التعطّش لسفك الدماء وتحطيم الأرواح السورية (واللبنانية والفلسطينية) وهتك الأعراض والتلذّذ السادي بتعذيب السجناء والسجينات.

هيئة تحرير الشام، وغيرها من فصائل الإسلام السياسي، أمام اختبار كبير تقدّمه إلى الشعب السوري المحاصر بالدمار والهشاشة

من السابق لأوانه ربّما أن نفصح عن مخاوفنا من صفحة جديدة في سورية، أو معرفة من يتربّص بسورية الآن في العلن والخفاء. لأنّنا نريد أن نفرح بسقوط الطاغية حتى الشبع، بغضّ النظر عمّا سيحدث غداً. لكن إسرائيل تسبق كل أوان، وتستعجل مخاوفنا، وهي تشنّ الغارة تلو الأخرى، وتستهدف مخازن أسلحة الجيش السوري، الذي هو جيش الشعب كما يفترض بجيوش الدول أن تكون، لا كما أراد له النظام الأسدي، الذي سخّره لقتل الشعب السوري وتدمير بناه التحتيّة وبيوته ومساكنه. وها هي إسرائيل تستبق الأحداث خشية أن يتمكّن جيش سورية بأسلحته وعتاده من حماية هذا الشعب أمام أطماعها نحو شرق أوسط جديد، تتولّى تنفيذه ووفق رؤية الولايات المتحدة في سعيها لتثبيت هيمنتها في هذا الجزء من الشرق، كي ترتّب نهب الموارد التي ما زالت المنطقة العربية تتنعم بها، وكي تؤمّن ظهرها حين تتوجّه شرقاً إلى بحر الصين، حيث الحرب الكُبرى هناك. لذلك، ليس غريباً أن تتولّى إسرائيل تأمين هذه المصالح والاستعدادات، وهي الذراع الأميركية وحارس مصالحها الاستراتيجية فيه. وها هي تسارع في تدمير كلّ مراكزه الأمنية ومطاراته ومرافئه العسكرية، وتحتلّ جبل الشيخ، وتتوغلّ على طول الحدود السورية الجنوبية كي تؤسّس منطقةً عازلةً بعد أن تخلّت عن اتفاق فكّ الاشتباك (1974) من جانب واحد، وقد تحتلّ مزيداً من الأرض.
تتولّى إسرائيل رسم الخطوط العريضة الجيوسياسة لشرق أوسط جديد، وتلعب بشكل سافر دور الأزعر الذي أطلقته الإدارة الأميركية يسرح ويمرح ويتغطرس، كما لم تفعل إسرائيل من قبل، وبهذه الشهية الجهنمية للقتل وارتكاب المجازر والإبادات، بدءاً بغزة وامتداداً إلى الضفة الغربية فلبنان وسورية، وذلك كلّه بذريعة الدفاع عن النفس. أمّا هيئة تحرير الشام وغيرها من فصائل الإسلام السياسي (بكل تنوّعاته)، تلك التي تعمل تحت مظلتها الجامعة، فهي أمام اختبار كبير تقدّمه إلى الشعب السوري المحاصر بالدمار والهشاشة على جميع الصُّعد، وآن له أن يرتاح ويبني ما تهدّم ويعيد لسورية طعم الحرّية. إسرائيل التي استغلّت وتستغلّ هشاشة الوضع في سورية، وسارعت قبل الجميع بتهميش جيشها عبر غارات تستهدف مقوّمات القوة التي تسمح لأبناء سورية وبناتها أن يحافظوا على سيادتها أمام كلّ طامع، كي تكون سورية حرّة وأبية. إن ورشة عمل لبناء ما تهدّم من بشر وشجر وحجر يُتوقّع أن تبدأ، وهي لحظة مفصلية في مستقبل المنطقة العربية، وليس في مستقبل سورية فحسب.
وعليه، الدول العربية مدعوة جميعها إلى مساعدة سورية في النهوض، حكومات وشعوباً، وفي مقدمتها دول الخليج، فمن دون سورية قويّة لا يمكن التفكير في استدامة النمو والازدهار لتلك الدول. فالقول إن سورية قلب الأمّة العربية النابض لم يكن مُجرَّد شعار فارغ. إنه حقيقة تاريخية جيوسياسية مكّنت سورية عبر التاريخ من الوقوف بوجه الغزاة، وساهمت في بناء الحضارة العربية العظيمة على مرّ العصور، وهذه الحقيقة التاريخية راسخة في العقل الجمعي السوري والعربي والعالمي، فضلاً عن ثباتها في إدراك شعوب المنطقة وأعدائها. لكنّ النظام الأسدي الاستبدادي المجرم غيّب دورها بجوهره المظلم الوحشي، حين عاث فساداً وتنكيلاً، ليس بالشعب السوري فحسب، بل بلبنان وبالقضية الفلسطينية، ولم يترك شيئاً إلّا وفعله للإضرار بمصلحة الأمة العربية، وساهم في تجريدها من إرادة التحرّر والنهوض، وكان الأسوأ بين أنظمة الاستبداد العربية.
مئات الألوف قضوا بسبب هذا النظام المتوحّش في سورية ولبنان وفلسطين. تآمر على شعبه وعلى الجميع، ويتحمّل الجزء الوافر ممّا حدث في لبنان من وهن وضعف، وما حدث للقضية الفلسطينية من تهميش، هذا فضلاً عن محاولات حافظ الأسد الدائمة في مصادرة القرار الفلسطيني المستقلّ من الشعب الفلسطيني، بل كان له إصبع في كثير من المجازر التي لحقت بالشعب الفلسطيني في لبنان وسورية، وما زالت حرب المخيّمات تذكّر العالم بوحشية هذا النظام وانتهاكاته ضدّ الشعب الفلسطيني، التي تفوّق فيها على جرائم إسرائيل نفسها، وقد تكشف الأيّام إصبعاً ما له حتى في مجزرة صبرا وشاتيلا، إذ توجد مؤشّرات عديدة على شراكته في هذه المجزرة من طريق العميل المزدوج إيلي حبيقة، الذي سارع النظام الأسدي السوري إلى تعيينه وزيراً محسوباً على هذا النظام، في أوّل حكومة لرئيس الوزراء رفيق الحريري بعد اتفاق الطائف، وبضغط منه. والكلّ يعلم كيف وقف ضبّاط الأسد وجنوده يتفرّجون على مذبحة تلّ الزعتر التي ارتكبتها آنذاك المليشيات المسيحية بحق أهالي تلّ الزعتر، كما مسؤولية بشّار الأسد عن تسوية مخيم اليرموك جنوب دمشق بالأرض، بعد حصار جوّع فيه الفلسطينيين، وقتلوا خلاله بوحشية لا تقلّ عن وحشية ما تفعله إسرائيل اليوم بأهالي غزّة. تزامن ذلك مع تدمير مخيّم حندرات في الشمال السوري، وتطويق مخيّم النيرب في حلب، وتجويع أهله، هذا غير الجرائم والتدمير الذي لحق بمخيم حمص وأهله. فاتورة جرائم هذا النظام لا تنتهي، وهي الأكبر ضدّ الشعب السوري، ولولا الإبادة الجماعية في غزّة، التي ما زالت تجري منذ 7 أكتوبر (2023)، لتفوّق نظام الأسد على بنيامين نتنياهو في حجم جرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، بل والإبادة الجماعية وتعذيب المعتقلين وإخفائهم قسراً. ولأن لا أحد حاسب أيّاً من هذين الأسدين الطاغيتين (الأب والابن)، منذ مجازر حماة وحلب في عام 1982، وامتداداً إلى المقتلة السورية الكُبرى منذ 2011، نعتقد أن نتنياهو تجرّأ على ارتكاب هذا الكمّ الهائل من الجرائم والمذابح الجماعية.

تآمر نظام الأسد على شعبه، ويتحمّل مسؤولية في ما حدث في لبنان من وهن وضعف، وما حدث للقضية الفلسطينية من تهميش

سجلّ النظام الأسدي شديد السواد، ولا تكفي اللغات مجتمعةً لوصفه أو توثيقه. بل هو أفسد العالم بأسره بوحشيته ما قبل الثورة السورية وما بعدها، كما تفعل إسرائيل. أقلّه خدش هذا النظام كل مظاهر الخجل والحياء، والمشاعر الإنسانية في كل أنحاء العالم، ساعده للأسف في غيّه هذا حزب الله وإيران وروسيا، الذين لم يتوانوا عن القيام بجرائم وتنكيل وتدمير لا تقلّ وحشيتها عن وحشية النظام نفسه. وإن كان للشعب السوري أن يفتح صفحةً جديدةً في حياته الحرّة، فإن محاسبة هذا الطاغية ومعاقبته دين في رقبته ورقبة العالم أجمع، وفي سلّم أولوياته. يكفي أن نتابع فقط المآسي التي تتكشّف منذ أيام، لتجعل من كل سجين حكاية عذاب ومهانة. لن تستقيم سورية إذا لم تجعل كلّ من تجرّأ على الشعب السوري قتلاً واعتقالاً وتدميراً وإفقاراً وتهجيراً ينال العقاب في المحافل الدولية والإقليمية والمحلّية، أفراداً ودولاً، وفصائل مجرمة أوغلت بالدم السوري وما زال ما خفي من إيغالها أعظم.
من السابق لأوانه أن نتحدّث عن المخاوف، لكن من غير أن نتجاهلها كي لا يعوق أيّ خوف بناء سورية وتعافيها ممّا أصابها، ولا سيّما إعادة بناء جيشها وقواها الأمنية على أسس وطنية وديمقراطية، كي لا يتكرّر هذا المصاب الذي ألمّ بها منذ سرق النظام الأسدي سورية وبطش بأهلها وبدول جوارها. وكي لا يعوق أيّ خوف من إعادة بناء سورية في مجالات البناء كلّها بقلب شجاع وتصميم عنيد.