سعد الحريري الغائب في حضوره الحاضر في غيابه
ظهرَ سعد الحريري في ذكرى اغتيال والده، في ساحة الشهداء في بيروت، على منصّة مرتفعة، برفقة شقيقته وصهره. ومصحوباً بثلّة من الحرَس والشخصيات. كان يسير ببطء، وبشيءٍ من الارتباك، كتفاه مُنْحنيتان إلى الأمام، كأنه يحمل ثقلاً. وجهُه مخطوف اللون، خدّاه مجوّفان، نازلان إلى أسفل، وعيناه حزينتان، تكادان تدمعان. وعندما بلغَ صدر المنصّة، انصرف الجمع من حوله، جالَ على أطرافها ليقترب من الجمهور المحتشد الهاتف له. ونطَق بكلماتٍ من سجل التعزيات اليومية: "الله يرحم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والناس هي الضمانة، الله يحمي لبنان...".
لم يكن اللقاء بين الحريري وجمهوره عفوياً. كل ما حوله يشي بالتحضير المسْبق لهذا الظهور: المصوّرون، الشخصيات، المنصّة الخشبية نفسها، الموسيقى التصويرية لدى دخوله وتجوّله بين أطرافها. والأهم: ذاك الحشد "الجماهيري"، آلاف من "الأوفياء"، الذين أقلّتهم الحافلات من مناطقهم البعيدة، صيدا، طرابلس، البقاع الغربي ... رافعين رايات "تيار المستقبل" الذي يرأسه، وصوره واللافتات المؤيدة له. كلها تلوّح بما تحمله على الأنغام الوطنية... وعندما قال تلك الكلمات الجوهرية، أو من دون أو يقولها، كانت هذه الجماهير تهتف باسمه، وتعيد المعْبودية ذاتها تجاه الزعيم: "بالروح بالدم نفْديك يا سعد!"، مع إضافة طقسٍ آخر، هو تقبيل يده ... عندما تشجّع، ونزل عن المنصّة.
خلال تلك اللحظات المعدودة من هذه الإطلالة، تكشّفت وحدة الحال بين سعد الحريري وجماهيره "الوفية". هم مثله ضائعون، حزينون، بلا حيلة. لا يملكون رؤية، ولا أدنى فكرة عن كيف يحيدون عن مسار الانهيار، كيف يمكنهم الاستمرار بالعيش في ظل الانهيار ... هم الذين على تماسّ معه كل ساعة من يومياتهم. هم الذين لا تكفّ الأسئلة تُطرح عليهم "لماذا لا تثورون على هذا الأوضاع؟ لماذا لا تصرخون، لا تنزلون إلى الشارع؟ ماذا تنتظرون؟ أن تموتوا ببطء، أن تحْتضروا ببطء؟". وجوابهم الدائم بأن "كيف؟ ونحن فاقدون كل طاقاتنا وإمكاناتنا؟ نحن المخترَقون، حتى في تلك الاحتجاجات المتواضعة التي ترونها على الشاشات".
بدا سعد الحريري، في ظهوره أخيراً، أكثر من أي وقت مضى، لا يملك شيئاً، لا طريقة ولا أدوات، ولا فكرة
بدا سعد الحريري، في ظهوره أخيرا، أكثر من أي وقت مضى، لا يملك شيئاً، ولا طريقة ولا أدوات، ولا فكرة ... عما يمكن أن يبادر هم، أو يسعى. مع الفرق أنه يتمتّع بالماء والكهرباء والطرقات والطعام والمسكن والخدمات ... إلخ، في منفاه الذهبي في الإمارات. ومع فرق آخر: معضلة الحريري من صنع يديه، أو شخصيته، أو "حظه" القليل، أو الثلاثة معاً. فهو، مثل أي سياسي لبناني، مربوط بخيطَين: داخلي، مع بقية زعماء الطوائف، وخارجي، إقليمي، وفي حالة الحريري، سعودي. في الأول، الداخلي، وبعدما أطلقت المحكمة الدولية اتهامها حزب الله باغتيال أبيه، دخل في تسويةٍ مع هذا الحزب، كانت نهايتها القضاء على ديناميكيته "الداخلية". أما في الثاني، الإقليمي، فان السعودية لم ترضَ عن الحريري، في تسوياته هذه، التي جعلته عاجزاً أمام حزب الله عن القيام بأية مبادرة من التي تطالبه بها، فزادَ ضعفه، وارتخى عصَبه (وليس واضحا إن كانت السعودية هي التي حثّته على التسوية الخاسرة، ثم تراجعت عنها، أو أن الحريري ورّطها بتخاذله أمام حزب الله، أو ذهب إلى أبعد مما تصوَّرته، أو أن قيادتها الجديدة، ببساطة، غيّرت "استراتيجيتها اللبنانية").
ذبول الحريري برّره للصحافيين الذين زاروه وحاوروه. فسّره بالبديهية المكرّرة مئات المرّات: أن حزب الله لم، ولن يدعه يعمل: "لو كان لديّ كتلة نيابية ماذا كنت لأستطيع أن أفعل في ظل هذه المعادلة القائمة؟ هل كنتُ لأتمكّن من المساهمة بإنهاء الفراغ الرئاسي بهذه الكتلة؟". والمعروف أن "الفراغ الرئاسي" هو عقدة اللحظة، أقوى أطرافها حزب الله.
سعد الحريري رجل فاقدٌ حريته، مثله مثل جماهيره. وإن كان هذا الفقدان لا يقع على عاتق الاثنين بالدرجة ولا بالنوعية نفسها، فهو كانت زيارته قصيرة، عاد إلى محلّ استقراره. والجماهير عادت إلى بؤسها اليومي. لكن المهم، "المكسب" الذي خرج منه بهذه الزيارة، وقد أعلنه عدد من هؤلاء الصحافيين من زوّاره، أن الزيارة "جدَّدت زعامته" الطائفة السنّية، وبيّنت أنه "ما زال الأقوى" من بين منافسيه. وقد أفهم الصحافيين أن التغيير لصالحه آتٍ يوماً ما، بفعل تبدّلات "محلية وإقليمية".
الحريري الزعيم لا يستقيل. لا تغريه الحرية، ولا أدواتها. إنه سجين قدره وطبائعه وحظه ... وشعبه، السجين بدوره
هذا الرجل الفاقد حريته، الذي جاء به القدر إلى سدّة زعامة أبناء طائفته، هو زعيم مطمئنٌ إلى جماهيره، "سيبقى على تماسّ مع الناس خدماتياً"، و"سيتابع قضاياهم ومطالبهم عبر مؤسّسات التيار". أي سيبقى، بحدود قدراته، على حالة الزبائنية القائمة بينه وبين "الناس". ولو علمتَ كمْ أصبح اللبنانيون متعطّشين إلى أية "لفتةٍ" خدماتية، سيكون سهلاً عليك تصوّر الجاذبية التي تمارسها ملاليمه... تغذيها الكليشيهات العاطفية: "إنتو ضمانة لبنان، هالبيب رَح يضلّ مفتوح، بوجودكم ومحبتكم، إنتو الناس الطيبة...".
رجل فاقد الحرية يقود جماهير فاقدة هي الأخرى حريتها، ومخيّلتها، طاقتها وأملها. 18 سنة من الحكم، بين حاضر وغائب، وبين غائب في حضوره، وحاضر في غيابه. وعلى امتداد 18 عاماً، منذ اغتيال والده. والغياب والحضور معضلة تجاور الشكسبيرية. إنها معضلة القدر بمواجهته للحرية.
ملاحظة: منذ بداية السنة الجديدة، استقالت رئيستان للوزراء. الأولى رئيسة نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، قالت إنها تعبت من هذه المهمة التي تتولاها منذ أربع سنوات، وأضافت ما يهمّنا هنا: "أنا أستقيل من هذه الوظيفة التي فيها امتيازات كثيرة، ولكنها أيضا تترافق مع مسؤوليات كبيرة. ومسؤولية أن تعرف متى تكون الشخص المناسب لتقود شعبك وبين متى لا تكون". الثانية رئيسة وزراء إسكتلندا، نيكولا ستورغون، تستقيل أيضا من "وظيفتها"، بعد ثماني سنوات من قيادتها بلادها. اعترفت هي أيضا بفشلها، بعباراتٍ مختلفة. قالت إن مشروع الاستقلال عن بريطانيا، الذي حملها إلى سدّة الرئاسة، لم يتحقّق، وإنه اقترب من مرحلته النهائية، وإن البلاد تواجه "تحدّياً مزدوجا": الأول "إقناع غالبية دائمة وصلبة، من الناخبين بمشروع الاستقلال"، والثاني إيجاد "طريقٍ لمواجهة المعارضة اللاديمقراطية".
والسيدتان، النيوزيلندية والإسكتلندية، حزينتان، لكنهما لا يبدو عليهن التعب، إنما شيءٌ من الانشراح، بالتخلي عن مسؤوليةٍ تريان أنهما غير قادرتين على تحمّلها. وما يفيض عنهما من ديناميكية ومن ثقة بالنفس، التواضع مع الثقة بالنفس ... يلغي أي تعبٍ عن وجهيهما. إنهما تتمتّعان بالحرية، مثل المجتمع الذي تقْودان. بين الحريري والسيدتين فرق الحرية. في وسعهما الاستقالة، إنهما رئيستا وزراء جاءتا بصناديق الاقتراع الصافية. أما هو، الزعيم، فلا يستقيل. لا تغريه الحرية، ولا أدواتها. إنه سجين قدره وطبائعه وحظه... وشعبه، السجين بدوره.