سريلانكا .. شعب مبتسم رغم أزمة اقتصادية ثقيلة

05 مارس 2022

راقصون في موكب ينظمه معبد جانجارامايا البوذي في كولومبو (16/2/2022/الأناضول)

+ الخط -

يبدو لزائر عاصمة سريلانكا، كولومبو، أن كل شيء هادئ فيها، باستثناء صخب ميناء المدينة، وهو أحد أكبر موانئ آسيا على المحيط الهادي، ويبدو المنظر خلابا في ساعات الليل من على شرفات فندق غراند أورينتال الكلاسيكي المبني على الطراز البريطاني، فسفن الحاويات العملاقة الراسية تنشط في تفريغ حمولاتها على مدار الساعة، والشاحنات متعدّدة الأحجام تجوب بغير توقف الشوارع الداخلية المحاذية للميناء. والأمر يتعلق أساسا، إضافة إلى الواردات المختلفة، ببناء مدينة ميناء كولومبو التي تضم فنادق وناطحات سحاب وعقود تأجير لشركات متعدّدة الجنسيات، ضمن اتفاقيةٍ أبرمتها حكومة سريلانكا عام 2014 مع شركات من القطاعين، العام والخاص، الصينيين. وبانتظار إنجاز هذا المشروع الذي يحاكي مدينة هونغ كونغ، تبدو الحياة اليومية للسريلانكيين أكثر بساطة وأقل طموحا، فثمّة سوقٌ يضم عشرات من الدكاكين الصغيرة بجوار بنايات بريطانية الطراز، فيما تتجمّع أمام الفندق مركبات التوك توك بانتظار السياح قليلي العدد في هذه الآونة. وتنشر هذه المركبات الصغيرة ذات العجلات الثلاث في شوارع 15 منطقة تتألف منها المدينة، وتضفي طابعا خاصا على حركة السير فيها، إذ تتميز هذه المركبات بالصوت المرتفع لمحرّكها، فيما يندفع السائقون بقيادة مغامرة يتم فيها الاندفاع السريع من مسرب إلى آخر، بالتجاور مع قوافل من الدرّاجات النارية التي ينطلق سائقوها بالطريقة اللولبية ذاتها. ومن المدهش أنهم لا يستخدمون أبواق السيارات، ولا تقع حوادث تُذكر، حتى إن سائقي الحافلات الطويلة هندية الصنع يقودون مركباتهم بالطريقة نفسها، بما يشبه سيركا مفتوحا. وتبلغ دهشة الزائر ذروتها، إذ تلتزم سائر المركبات، كبيرها وصغيرها، بالتوقف قبيل الوصول إلى الخطوط البيضاء، ويتمكّن العابرون من قطع الطريق بسلاسة وأمان.

الدين في سريلانكا فضاء روحي ومكوّن رئيس للهوية القومية

وبالنسبة لزائر عربي، فإنه سوف يتلقى تحية "السلام عليكم" من أبناء المدينة الذين يجيدون التعرّف على سحنات الزائرين. وغالبا ما يجرى تلقي التحية من مسلمي هذه الدولة الجزرية، ونسبتهم تناهز 8%، مثلهم في ذلك مثل المسيحيين الكاثوليك، وذلك من عدد السكان البالغ 22 مليون نسمة، حيث يتصدّر البوذيون النسبة الأعلى، يليهم بفارق كبير الهندوس، ما يجعل الطابع البوذي هو الغالب، حيث تنتشر المعابد الصغيرة في الشوارع، فيما تنتشر مجسّمات الرموز البوذية في مداخل المباني الكبيرة وفي أرجائها، مثل المستشفيات، وإذ تقرع أجراس الكنائس في أوقات مختلفة، ويعلو صوت الأذان ساعة الفجر، فإنه يجرى بث صلوات بوذية بصوت مسموع عقب الأذان ساعة كاملة، قبل انبلاج ضوء النهار. وثمّة وزارة خاصة للشؤون البوذية. لكن المرء لا يلحظ رموزا دينية أخرى في أزياء الناس وفي سلوكهم اليومي، فالدين هنا هو فضاء روحي ومكوّن رئيس للهوية القومية، وبغير أن ينعكس ذلك على انسياب الحياة اليومية ذات الطابع العلماني، وعلى اختلاط السكان وتمازجهم، وحيث يشدّد الجميع على الوئام والسلام الاجتماعي بين سائر المكونات، وبعد 13 عاما من انتهاء تمرّد عرقية التاميل واستتباب الأمن، وهذه العرقية تضم أدياناً شتى، كما عرقية السنهالية، الأكبر في البلاد بنسبة تبلغ نحو ثلثي عدد السكان.

بلاد ناشطة، ونسبة البطالة فيها نحو 8% فقط، وتجتذب إليها السياح من الغرب على مدار العام، ومع نسبة ضئيلة من العرب

ولا ينفي انسياب الحياة اليومية ومظاهر النشاط التجاري في كولومبو والمدينة الثانية كاندي أن سريلانكا تعيش أزمة اقتصادية، من أبرز تجلياتها ارتفاع المديونية إلى نحو 45 مليار دولار، ثمانية منها للصين، وشحّ الاحتياطيات المالية: 2.8 مليار دولار نزولا من 7.5 مليارات دولار قبل ثلاثة أعوام، ما يفاقم صعوبة تلبية الاحتياجات الداخلية، خصوصا من الطاقة، وضعف القدرة على سداد الديون. ويعزو المسؤولون هذه الأزمة إلى جائحة كورونا، والضعف الذي اعترى حركة السياحة. ويسترعي الانتباه أن الغزو الروسي لأوكرانيا يثير القلق في هذه البلاد، لكون نسبة عالية من السياح يفدون إلى هذه الجزيرة الكبيرة من روسيا وأوكرانيا معا، فضلا عن القلق من الارتفاع المضطرد في أسعار الطاقة، ونقص تحويلات العاملين في الخارج، فالسريلانكيون من الشعوب المهاجرة، وكثيرون منهم فقدوا أعمالهم مع الإغلاقات هنا وهناك في الخارج، إضافة إلى تأثير الإغلاقات في الداخل، مع تأكيد المسؤولين أن كولومبو ستظل على وفائها للالتزامات المالية نحو الخارج، ولا تسعى إلى نيل المزيد من القروض. ولا تخفي أصوات معارضة خشيتها من تنامي النفوذ الاقتصادي للصين من خلال مشروع كولومبو بورت سيتي، ويضربون مثلا على ذلك بثاني ميناء في البلاد، هامبانتونا، الذي أصبح في حوزة الصين منذ العام 2017. وتنظر الجارة الكبرى الهند بتوجّس إلى تنامي النفوذ الصيني، ما يضعف قدرة سريلانكا على استقبال الصادرات الهندية، بل وقد يضعف الروابط الوثيقة بين البلدين، وهي روابط ثقافية وروحية، لكون سريلانكا جزءا من الفضاء الهندي، إلى جانب العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين والشعبين.على أن كولومبو تتفادى الظهور السياسي بنشاط على المسرحين الإقليمي والدولي، وتجنح إلى حياد إيجابي حيال الصراعات والتوترات وأوجه التنافس المحمومة بين القوى الكبرى، وهو ما يفسّر ضآلة حضور هذا البلد في وسائط الميديا. فيما يتبدّى نظامها البرلماني بصيغةٍ أقرب إلى الديمقراطية الغربية، مع مسحةٍ من "ديمقراطية اشتراكية". ومن المثير أن صور الثائر متعدّد الأصول، أرنستو تشي غيفارا، تظهر في واجهة مطاعم العاصمة ومقاهيها، غير أنه، بسؤال كثيرين عنه، أفادوا بأنهم لا يعرفون من هو هذا الملتحي صاحب الصورة الذين يدخن سيجاراً كوبياً، والذي تحول إلى أيقونة شبابية بأكثر مما هو "أيقونة تحرّرية".

قبل قرون عديدة، عرف العرب سريلانكا، وأسموها بلاد سرنديب وجزيرة الياقوت، لتوفر الأحجار الكريمة فيها، فيما أطلق عليها آخرون اسم بلاد الشعب المبتسم. والآن، ترتبط هذه البلاد بصورة العمّال في دول الخليج، وحتى بعاملات المنازل، وفي أجود الأحوال بمنتج الشاي، وهي صورةٌ متعسّفة، فالبلاد ناشطة، ونسبة البطالة فيها نحو 8% فقط، وتجتذب إليها جموع السياح من الغرب على مدار العام، ومع نسبة ضئيلة من العرب، وتنشأ فيها استثمارات يعبّر عنها بعشرات ناطحات السحاب في العاصمة، وبنية تحتية جيدة نسبيا، فيما تنتشر فيها الغابات والشلالات وسواحل طويلة، وطقس فريد تتراوح فيه درجات الحرارة بين 18 و32 درجة طوال العام مع أمطار أستوائية تهطل في درجات الحرارة هذه.