سد النهضة .. خلاف إلى تصعيد
(1)
أمّا وقد انتهت جلسة مجلس الأمن في الثامن من شهر يوليو/ تموز الجاري، إلى مناشدة الأطراف المعنية بأزمة سد النهضة الإثيوبي بالعودة إلى طاولة التفاوض، تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، فإن من تابع تفاصيل ما جرى فيها يدرك جلياً أن المجلس مال إلى تجاهل أن لتلك الأزمة وجهين، فني وهو الأصل، ودبلوماسي يتعلق بآليات ومنهج التقاوض. أما الجانب الفني فليس للمجلس فيه من اختصاص، وليس له في مثل تلك الأزمة من سوابق مرجعية. ولعل المراقب يرى أن الدعوة المقدمة من كل من السودان ومصر قد مالت، في مجملها، إلى التركيز على التفاصيل الفنية للخلاف بين وجهات النظر التي تبنّتها البلدان الثلاثة، فيما الاستعصاء في حقيقته دبلوماسي يتصل بمنهج التفاوض. وللتأثير على مجلس الأمن بتبني وجهة النظر الفنية الإثيوبية، بعثت أديس أبابا وزير المياه، وليس وزير الدبلوماسية الإثيوبية، ليرد على الحجج الفنية التي فصلتها كل من مصر والسودان، فيوحي للمجلس أنه، وبحكم اختصاصه مجلسا للأمن، ليس معنياً بالأمور الفنية، فانتهى الأمر بإعادة ملف التفاوض حول السدّ إلى المظلة الأفريقية.
(2)
من الملاحظ أنّ الوزير الإثيوبي الذي شارك ممثلا لبلاده في جلسة مجلس الأمن لم يركّز كثيراً على اتفاق المبادئ الذي وقعته مصر والسودان وإثيوبيا في عام 2015، وذلك اتفاقٌ سياسيّ ودبلوماسيّ في المقام الأول، أقرّ الموافقة على إنشاء ذلك السدّ من ناحية المبدأ، فلم يحتوِ على تفاصيل فنية، كان طبيعياً أن تترك للمفاوضين الفنيين من الأطراف الثلاثة. ولم يغفل ذلك الاتفاق عما ورد من مبادئ اعتمدها قانون المياه الدولي، أهمها: "تعاون الدول المشاطئة للمجرى المائي المشترك"، والذي أقرّ "التعاون على أساس المساواة في السيادة، والسلامة الإقليمية، والمنفعة المتبادلة وحسن النية من أجل الاستخدام الأمثل والحماية الكافية لمجرى مائي دولي". ولقد اعتمدت اتفاقية المبادئ تلك، في مادتها الثالثة، "اتخاذ التدابير المناسبة لمنع التسبّب في ضرر كبير في استخدام النيل الأزرق، وتطلب من الدولة التي تسبب استخداماتها هذا الضرر، أن تتخذ جميع التدابير اللازمة للقضاء على هذا الضرر أو تخفيفه. وعند الاقتضاء مناقشة مسألة التعويض". وأقرّت المادة السابعة "مبدأ تبادل المعلومات والبيانات"، وتلزم كل من الدول الثلاث بـ"توفير البيانات والمعلومات اللازمة لإجراء الدراسات المشتركة للشركات عبر الوطنية بحسن نية وفي الوقت المناسب". وأقرّت المادة العاشرة مبدأ التسوية السلمية للنزاعات الناشئة "ودّياً من خلال التشاور أو التفاوض وفقاً لمبدا حسن النية". ولعدم حدوث ذلك، نصّ إعلان المبادئ، وأجاز للأطراف "أن تطلب بشكل مشترك التوفيق أو الوساطة أو إحالة الأمر إلى رؤساء الدول ورؤساء الحكومات للنظر فيها".
الاستعصاء الذي وقع في التفاوض لحلِّ الخلاف بشأن سد النهضة، والتفاوض هو السبيل الدبلوماسي المتاح، ترك الأطراف الثلاثة في حالٍ من عدم التوافق
وقد تجاهل الطرف الإثيوبي الالتزام بما ورد في اتفاق المبادئ، أولاً بشأن مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، وثانياً بمبدأ تبادل العلومات والبيانات، وثالثاً بمبدأ عدم التسبّب بأيّ ضررٍ ذي شأن، ورابعاً بالمبدأ الدبلوماسي، وهو التوفيق أو الوساطة أو إحالة الأمر إلى الرؤساء. وتجاهل المبدأ الأخير هو الذي ألجأ السودان ومصر إلى رفع الأمر إلى مجلس الأمن.
(3)
الاستعصاء الذي وقع في التفاوض لحلِّ الخلاف، والتفاوض هو السبيل الدبلوماسي المتاح، قد ترك الأطراف الثلاثة في حالٍ من عدم التوافق، بدا جلياً إثر عجز الاتحاد الأفريقي، وهو المظلة التي كان ينبغي أن تقوم بدورٍ فاعل وحاسم لحلِّ ذلك الخلاف. إزاء إصرار إثيوبيا، وبصورة أحادية، على ملء السدّ وتشغيله في مرحلته الثانية، تزامناً مع بدء موسم الأمطار في شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب من العام الحالي، ومن دون الاستجابة لمناشدات كلٍّ من السودان ومصر للجوء إلى التفاوض الدبلوماسي، لم يبقَ أمام السودان الذي ستتضرّر سهوله الشرقية، بشراً وأرضاً، جراء الملء والتشغيل الأحادي من جانب إثيوبيا، إلا اللجوء لطلب مجلس الأمن للنظر في استعادة الزّخم الدبلوماسي للتفاوض الذي عارض الجانب الإثيوبي، بتعنت واضح، منهجيته وأساليبه.
(4)
يعد قبول الهيئة الأممية طلب السودان ومصر، في حدّ ذاته، نجاحاً نسبياً لطرح موضوعٍ يتصل، وللمرّة الأولى في مجلس الأمن، بالنظر في خلافٍ نشب حول موارد مائية مشتركة. ثمّة من تسرّعَ ورأى في جلسة المجلس انتصاراً لوجهة النظر الإثيوبية التي راهنت على عدم اختصاص المجلس بالخلافات الفنية حول الأنهار المشتركة، وثمة من رأى فيها فشلا سودانيا مصريا، متجاهلاً استجابة مجلس الأمن لمطلب دولتي المصبّ، السودان ومصر، بالدعم الدبلوماسي والسياسي، وهو ما أيّده المجلس بإعادته ملف الأزمة إلى مزيد من التفاوض، تحت مظلة المنظمة الأفريقية.
لعل تدخل جامعة الدول العربية، في اجتماعها الاستثنائي قبيل عقد جلسة مجلس الأمن، أعاد إلى الذاكرة ذلك التنافر التاريخي القديم المتوهم بين ما هو أفريقي وما هو عربي
يبقى أمران أثرّا على ضعف الاستجابة الدولية الجادّة للطرح المقدم من الدولتين بتعزيز منهج التفاوض وتحديد سقف له، وهو مطلب قدّمه السودان، وفق ما قرّره الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. تُجيز المادة 33 لمجلس الأمن، في ما لو تم تنبيهه بشأن أيّ نزاع يمكن أن يهدّد السلم والأمن الدوليين، وفق المادة 37 من ذلك الفصل، أن يوصي بـ"حل النزاع سلمياً بالتفاوض والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم". لم يطلب السودان أكثر من ذلك، فما هما الأمران اللذان أفضيا إلى ضعف الاستجابة لمطلب السودان ومصر؟
(5)
أوّل الأمرين ما لوحظ من قصور الدبلوماسيتين، المصرية والسودانية، في جهدهما لتأمين حشد دبلوماسي في أوساط الكبار، مثل الصين وروسيا وبعض أطراف خليجية لها بعض مصالح في القرن الأفريقي، فلم تبدِ حماسة لتأييد المطلب السوداني والمصري. ولعل تدخل جامعة الدول العربية، في اجتماعها الاستثنائي قبيل عقد جلسة مجلس الأمن، أعاد إلى الذاكرة ذلك التنافر التاريخي القديم المتوهم بين ما هو أفريقي وما هو عربي، وإن كانتا، مصر والسودان، من مؤسسي المنظمة الأفريقية في أديس أبابا عام 1963.
ثاني الأمرين ما اتصل بالخطاب السوداني والمصري، والذي كان جلّ تركيزه على شرح التفاصيل الفنية في الخلاف مع إثيوبيا بشأن سد النهضة أكثر من تركيزه على الجهد الدبلوماسي المطلوب لتفعيل التفاوض، وتجاوز الاستعصاء الدبلوماسي الذي تسبّبتْ فيه إثيوبيا. وللحق، كان للسودان صوت واضح، طالب فيه مجلس الأمن بضرورة تعزيز جهود التفاوض الدبلوماسي، فلا تنفرد إثيوبيا بتصرفٍ أحادي قد يُحدث إضراراً بدولتي المعبر والمصب.
الخيارات جدّ قليلة أمام كلٍّ من السودان ومصر، وأقلها يمثل تصعيداً يحمل مخاطر في كامل الإقليم
(6)
لم يكن قرار الملء الأحادي لسدِّ النهضة إثيوبياً محضاً، بل فرضته الطبيعة، إذ يقع توقيت موسم الأمطار في الأحباس العليا في شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب من كلِّ عام، غير أنه جرى تجاهل المناشدات التي صدرتْ من السودان ومصر ولم تجد أذناً صاغية من إثيوبيا، بما أوصل الأخيرة إلى تجاهل نصوص اتفاق المبادئ ومقرّراته. عليه، فقد تترك الأطراف الثلاثة ذلك الاتفاق في مهب الريح. لا إثيوبيا، ولا الأمم المتحدة، بحكم مخرجات مجلس الأمن أخيرا، تريان أهمية له، فهل يكون التنصّل من ذلك الاتفاق خيارا ماثلا أمام كل من السودان ومصر، وبما يستتبع ذلك من تداعيات، أم ثمّة خياراتٌ سيفرزها الواقع الماثل؟
هكذا وجد كلٌ من السودان ومصر نفسيهما أمام مشروع سـدٍّ، باركا إنشاءه باتفاق مبادئ منذ عام 2015، فيما طرف ثالث ماضٍ في تجاهل تفاصيل يطلبها مشاركوه في المشروع. هما الآن أمام مجلس أمنٍ منح مجاملةً لفظيةً لمنظمة إقليمية، تتمثل في الاتحاد الأفريقي، ليواصل دوراً لا خبرة فنية له فيه، ولا جهود دبلوماسية فاعلة يبذلها، ومقرّه في دولةٍ، هي طرفٌ في ذلك التنازع. الخيارات جدّ قليلة أمام كلٍّ من السودان ومصر، وأقلها يمثل تصعيداً يحمل مخاطر في كامل الإقليم.