زلزال وهمي في نقابة الصحافيين المصريين

21 مارس 2023

حشد من الصحفيين المصريين في انتخابات النقابة في القاهرة (17/3/2023/العربي الجديد)

+ الخط -

دعك من التشفّي، والمكايدات وعبارات السخرية التي راجت بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أهل الإعلام والصحافة منهم على وجه أخص؛ ودعك أيضاً من حفاوةٍ لها ما يبرّرها بإسقاط متعمّد، وسقوط متوقّع لمن وصفه زملاء كثيرون، غالباً عن حقّ، بأنّه مرشّح "مجلس الأمن الوطني"، على منصب نقيب الصحافيين في مصر، لانتخابات الدورة التي أجريت يوم الجمعة، 17 مارس/ آذار 2023. 
يمكن لك أن تصحبني، بالطبع إن أردت، في جولة أسئلةٍ عساها أن تجيب عن السؤال الذي شغل، والأغلب لا يزال يشغل، مساحة كبيرة من مناقشات بين قطاعات وشرائح واسعة من المثقفين والمنشغلين بالشأن المصري العام، بل شرائح لا بأس بها من خارج هذه الدوائر بكل حساباتها وتبايناتها ومنطلقاتها الفكرية والاجتماعية؛ ماذا جرى حتى سقط من سقط، ونجح من نجح، بهذه السلاسة؟ 
ومن السؤال المركزي، تتناسل أسئلةٌ أخرى، ربما تساعد الإجابة عنها، أو حتى مجرّد طرحها للتفكير فيها، في فهم ما يجري والاستفادة الحقيقية من تجربةٍ يراها كثيرون من المنشغلين بها تصلح للقياس عليها في تجارب أخرى أكثر شمولاً وأهمية، حد اعتبارها إرهاصات تغيير؛ بل كما وصفها بعضهم، واهماً على الأرجح، زلزالاً يمكن أن يهزّ النظام الغشوم، وحاكمه الوحيد الجاثم على صدور العباد والبلاد منذ عشر سنواتٍ عجاف، يذيق فيها الناس صنوفاً من التنكيل والإفقار والإهانة.

لدى النظام طابور طويل من الحالمين، والمشتاقين، ومن أصحاب التجارب السابقة كذلك، كانوا قادرين على حسم معركة الانتخابات

ضمن هذه الأسئلة، مثلاً، هل كان النظام عاجزاً عن الإتيان بمرشّح أكثر إقناعاً، من الذين صنعهم ويصنعهم على عين الأجهزة الأمنية التي تتحكّم في منظومة إعلامه منذ سنين، وحتى ما قبل الانقلاب العسكري الدموي في 2013؟ بالقطع لا، فلديه طابور طويل من الحالمين، والمشتاقين، ومن أصحاب التجارب السابقة كذلك، كانوا قادرين على حسم معركة الانتخابات. وفي هذا الطابور وجوهٌ تحظى بحد أدنى من قبول، يأتي محمولاً على رافعة رشاوى انتخابية، تواطأ كثيرون على قبولها برضا بكلّ أسف، وهي تتمثّل في زيادات نقدية لم يعد أي مرشّح أمني يخجل من إعلانه الحصول عليها من الحكومة، ويعتبر هذا ضمن أوراقه الرابحة الحاسمة في معركة الانتخابات؛ ولم يعد زملاء كثيرون يرى في قبولها بأساً، فيعطي صوته لمن منحه إياها، من دون اعتبارٍ لأي معيار آخر! وفي الأسئلة أيضاً، لك أن تسأل: هل كانت السلطة عاجزة عن أن تجعل العطية (الرشوة يعني)، أكثر إغراء (تبحبحها يعني)، ليكون ردّ الجميل من الناخبين مضموناً؟ 
يمكنك أن تحصل على إجابة وافية شافية، سريعة وحاسمة أيضاً إن راق لك أن تسأل ما تختاره من عيّنة عشوائية للزملاء؛ نعم كانت تستطيع لو أرادت؛ فلماذا لم تفعل؟ هل كانت السلطة، وهي نفسها التي تعتقل وتنكّل وتسجن ليل نهار، عاجزةً عن تعطيل جولات ولقاءات للمرشّحين المنافسين لمرشّحها في أروقة مؤسّسات صحافية حكومية تابعة لها؟ المؤكّد أنها لم تكن عاجزة، لكنها سمحت بهذا، بل سمحت بأن تخرُج أصواتٌ كثيرة تواليها وتأتمر بإشاراتٍ منها، أن تعلن مبكّراً أنّها لن تنتخب مرشحها؛ فلماذا سمحت ولم تمنع؟ ماذا عن قدرة الأجهزة التي تدير منظومة إعلام النظام على إفساد العملية الانتخابية وتعطيلها، بحجج وذرائع مشهود لها بامتلاك (وابتكار) عديد منها؛ حين بدا لها بعد ساعات من فتح باب التصويت أن مرشّحها في طريقه إلى الخسارة؟ ماذا عن قدراتها اللاحقة في أن تعطّل، بل تنسف عمل مجلس النقابة بتشكيله الجديد؟
للأسف، تستطيع، وممثلوها حاضرون وجاهزون ورهن إشارتها؛ فهكذا يقول تاريخ طويل من الألاعيب التي يمكنها أن تفسد كل شيء... يبقى سؤال جوهري آخر، هل قرّر نظام الانقلاب فجأة أن يكون أليفاً، ويتخلى عن توحّشه وقمعه وكراهيته المعلنة للديمقراطية، معنىً ومبنى؟ حكّم عقلك وضميرَك، ستعرف الإجابة بسهولة ويسر.

يمكنك أن تتابع وجوهاً لا يتوقّف تنسيقها مع أجهزة الأمن، وهي تبشّر بأن الانتخابات يمكن أن تجري، وأن السلطة تسمح بالمنافسة

ربما هي طريقة نظام المخلوع حسني مبارك، اقترحها أحدٌ ما، ووافق عليها النظام، وتتلخّص في اتّباع سياسة التنفيس في كياناتٍ بعيدةٍ عن العصب الحساس، فإذا استسلمت لهذا التصوّر، وأيّاً ما كانت إجابتك، فالنتيجة واحدة، أنك ستقرّ بأنّ المشهد مصنوع. 
الآن، وقد تكونت لديك حصيلة أساسية من الإجابات/ التساؤلات حتى، سيكون من المنطقي أن تسأل: لماذا جرى ما جرى؟ يمكنك أن تعرف جوانب من الإجابة، أو على الأقل قراءة أخرى لما جرى، إذا تابعت ما قاله موالون للسلطة، ستعرفها في لحن القول منهم، وستعرفها أيضاً إذا أردتَ أن تتابع تعليقات "حسني النية" بوصف ما جرى بأنّه "زلزال"، ويمكن أن يمثّل سابقة أو نموذجاً يصلُح القياس عليه، في لعبة انتخابات رئاسية يحلم النظام الحالي بأن تتم، وبأن تُبقي الجاثم على صدور البلاد والعباد سنواتٍ أخرى. وحينها، وإذا شارك من يتصوّر ناسٌ كثيرون أنهم "معارضون"، و"مدنيون"، و"وطنيون"؛ في الترشّح لها؛ فستكون "صكّ شرعية" جديدة؛ ونقلة أخرى تمكّنه من الذهاب بعيداً في ترسيخ اعتراف دولي حصل عليه بصفقات السلاح التي تكشف الأرقام أنها لم تحدُث في تاريخ مصر، وبتنازلٍ عن أصول الدولة ومقدّراتها، راكمتها أجيال على مدار قرون، وبابتزاز رخيص لأنظمة حكم غربية، يبدو بعضها مستمتعا بلعبة تبادل الابتزاز مع نظامٍ لا يكفّ عن التلويح بورقة الهجرة غير النظامية، وبتباهيه علانية بدوره في حماية الكيان الصهيوني، وبقدرته على الضغط الذي لا يتوقّف على حركات المقاومة، وغيرها من المكونات الفلسطينية.
يمكنك كذلك، لمزيد من استيضاح الصورة، أن تتابع وجوهاً لا يتوقّف تنسيقها مع أجهزة الأمن، وهي تبشّر بأن الانتخابات يمكن أن تجري، وأن السلطة تسمح بالمنافسة، بل يشطَح كبيرُهم في خداع الناس بأن القادم رئيسٌ مدني؛ (بأمارة إيه لا مؤاخذة، وعشرات الآلاف، وفقاً لأقل تقدير، هناك في غيابات السجون، بعضهم ينتحر من سوء ما يلاقي من تعذيب في سجن بدر 3، وفي المنافي، ورهن المطاردة، والإخفاء القسري؟).

انتبهوا لألاعيب نظام، لا يتورّع عن فعل أي شيء وتنفيذ أي سيناريو يضمن له البقاء، جاثماً على صدر مصر، محاولاً كتم أنفاسها

أما حفاوة بعض الآحاد الذين يروّجون "انفراجة"، تحوّلت عندي لمصطلح سيئ السمعة لكثرة ما ابتذلوها، فموقفهم لا جديد فيه؛ لكن معرفته مفيدةٌ جدا، وهم الذين لم ينتظروا أكثر من دقائق معدودات، بعد إعلان نتيجة انتخابات النقابة، للتنطيط على مواقع التواصل والتبشير بأن الانتخابات الرئاسية هي الحلّ، فهذا مبلغهم من الإفك والتزوير والبهتان.
هل يعني هذا أن كل الذين حرموا "مرشح مجلس الأمن" من أصواتهم، وأعطوه للمنافسين، سواء الفائز بمنصب النقيب، أو ثلاثة غيره، من هواة الترشّح والسقوط؛ فعلوا ذلك للمشاركة في التمهيد وإعداد المسرح للعرض المنتظر فيما يصرّ النظام وإعلامه على تسميتها "انتخابات رئاسية"؟ إجابتي القاطعة: لا. ... وهل البديل أن يقاطع المهنيون، كلٌّ في نقابته أية انتخابات نقابية قادمة؟ وإجابتي أيضا: لا؛ فالمطلوب هو العكس تماما؛ بل شاركوا واعتبروها كما يحلو لبعضهم وصف المشاركة "نضالا سلميا"؛ ولكن فقط، ناضلوا بشروط النضال الحقيقي، وتمسّكوا بكل الحقوق، واختاروا وجوها تثقون بها. 
فقط انتبهوا لألاعيب نظام، لا يتورّع عن فعل أي شيء وتنفيذ أي سيناريو يضمن له البقاء، جاثماً على صدر مصر، محاولاً كتم أنفاسها. اقرأوا المشهد جيداً، وكونوا ولو لمرّة واحدة أكثر ذكاء وحصافة، اقتنصوا ما يمكن من فرص، إن راق لكم هذا؛ لكن لا تخدعوا الناس وتُدخلوها في مقايضاتٍ مع نظام تدركون أكثر من غيركم، تماماً كما يدرك هو، أنه جاء فوق جثث المصريين، ويعتبر "الديمقراطية" كلمةً بنت حرام.

50C80A35-B0FB-49CC-BE88-9A8FC8B80144
نزار قنديل
كاتب وصحافي مصري، مدير مكتب مصر ورئيس قسم المراسلين في موقع وصحيفة "العربي الجديد". عمل في عدد من المؤسسات الإعلامية العربية والمصرية. يعرّف نفسه: كل لحظة تمر، بدون أن تكون لك كلمة حق وخير وجمال، هي وقت ضائع. كل لحظة لا تصمت فيها، إذا لم يكن لديك كلمة نافعة، هي ثرثرة ضارة. بعيداً عن الوقت الضائع، والثرثرة، أحاول أن أكتب. إن شئت فاقرأ ما تيسر من كتابتي.