زلزال تركيا والعقاب الإلهي

17 فبراير 2023
+ الخط -

في اليوم الأول لبداية السنة الدراسية عام 1999، ذهبت إلى المدرسة للالتحاق بالصف الخامس الابتدائي، لأجد أن الحديث الغالب على نقاشات الجميع، طلابا ومعلمين، يدور حول الزلزال الذي وقع في تركيا قبل أيام من بدء العام الدراسي، وأسفر عن مقتل أكثر من 17 ألفا وإصابة أكثر من 23 ألفا آخرين.

لم تكن المناقشات عن ضحايا الزلزال أو تداعياته أو حتى عن أسبابه العلمية، بل عن أن هذا الزلزال وقع بسبب إهانة القرآن الكريم على يد ضباط من الجيش! تحدّثت القصة المزعومة عن حفل تخرّج أقيم في قاعدة عسكرية تركية، أعقبه حفل تضمّن رقص راقصات وشرب الخمور، بالإضافة إلى الطامّة الكبرى، حسب القصة، وهي أن ضابطا مزّق نسخة من القرآن وألقاها تحت أقدام الراقصات، مستهزئا بالآية الكريمة "إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ومتسائلا باستهتار عما إذا كان الله عز وجل سيفعل شيئا تجاه إهانة كتابه. وما هي إلا دقائق، تقول القصة، حتى خسفت القاعدة بمن فيها، وغرقت تحت مياه البحر!

أتذكّر جيدا أنني سخرت من هذه القصة رغم عدم تجاوزي سن الأحد عشر عاما، ورغم أنني كنتُ أعيش في بيئة مشجّعة على تصديق مثل تلك القصص، وقد صدقت قصصا أخرى بالفعل، إلا أنه وقر في نفسي، فور أن سمعت القصة، أنها مفتعلة، خصوصا أن زميلا حاول أن يضيف بعض البهارات على القصة، فزعم أن الضابط الذي مزّق المصحف شعر في داخله على الفور بأن العذاب سيأتيه جزاء لما فعله! فقد استيقظ داخلي الحسّ الصحافي الذي يبدو أنه بدأ من هذا اليوم، سائلا زميلي بسخرية عن الطريقة التي عرف بها مكنونات نفس هذا الضابط.

لاقت تلك القصة رواجا في ذلك الحين، حتى إنها انتشرت كذلك على مواقع ومنتديات الإنترنت في الوطن العربي رغم مرور سنوات على الزلزال، ويمكن رصد عشرات المواقع التي نشرت القصة الملفقة وما زالت تنشرها. وربما كان الظرف السياسي الداخلي في تركيا حينها قد شجع على انتشار الكذبة، إذ كان الجيش يتمتع بالوصاية على السياسة والمجتمع في تركيا، وكان قد أطاح قبل عامين فقط حكومة السياسي الإسلامي نجم الدين أربكان، في حركة عُرفت بـ"انقلاب ما بعد الحداثة". وبالتالي، كانت تلك القصة نوعا من التنفيس عن غضب التيارات الإسلامية مما حدث، ومحاولة لشيطنة الجيش التركي.

تبدو القصة متشابهة إلى حد كبير مع حكاية تُروى عن هزيمة 1967 في مصر، أن قاعدة جوية نظمت حفلا غنائيا بحضور راقصة شهيرة في الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وأن الضباط سهروا حتى الصباح التالي. وما هي إلا دقائق بعد انتهاء الحفل حتى كانت الطائرات الإسرائيلية تدك القاعدة وتسوّيها بالأرض!

غلب خطاب التضامن والتعاطف وتقديم الجهود والدعوة إلى حشد الموارد والإمكانات للمساعدة أي كلام أخر

تسيء هذه القصص وأمثالها إلى الدين أكثر مما تزعم إفادته، فهي ستترك المؤمنين في حيرة من أمرهم، وربما سيصيبهم الشك في العدالة الإلهية، إذ سيتساءلون عن ذنب آلاف الأتراك الذين قضوا جرّاء الزلزال عام 1999 رغم أنهم لم يهينوا القرآن، وذنب آلاف الجنود المصريين الذين قتلتهم الطائرات الإسرائيلية، رغم أنهم لم يحضروا أي حفل غنائي ولم يسهروا حتى صباح يوم النكسة! كما أن المتطرّف راسموس بالودان أحرق القرآن عدّة مرات ولم يحدث له شيء، ولم يتعرّض لهذا الانتقام المباشر الذي يزعم هؤلاء أنه يصيب العصاة. وقد حدثت هزيمة 1967 لعشرات الأسباب التي يمكن الحديث عنها واستخلاص الدروس منها، لا بسبب حفل غنائي. وتحمل هذه القصص نوعا من التألّي على الله عز وجل، واحتكارا للحديث باسمه وتفسير أقداره في الكون حسب مزاج مؤلفي (ومروّجي) تلك القصص ورؤيتهم. كما لا تحمل أي مصداقية ولا يمكن قياسها أو وضع قوانين لكيفية حدوثها أو حتى تجنّبها، ولذلك سيؤدّي تصديق هذه القصص إلى وضع الفرد المؤمن والملتزم بتعاليم الإسلام في حالة دائمة من الهلع، تخوّفا من احتمال تعرّضه لكارثة مثل زلزال تركيا بسبب ذنوبٍ لا تخصّه، بل ارتكبها آخرون محيطون به في المدينة التي يعيش فيها!

ربما كانت إحدى إيجابيات التفاعل مع كارثة الزلزال أخيرا في كل من سورية وتركيا، أن مثل هذا الكلام الفارغ كان خافتا للغاية، بينما غلب خطاب التضامن والتعاطف وتقديم الجهود والدعوة إلى حشد الموارد والإمكانات للمساعدة. وقد نشرت صفحة تحمل اسم شيخ سلفي شهير مقولة كاذبة منسوبة للصحابي عمر بن الخطاب، حملت في طياتها اتهاما للضحايا بأنهم المسؤولون عما حلّ بهم لأنهم عصاة، لكن ردود الفعل القوية أدّت إلى حذف المنشور، مع نشر توضيح يفيد بأن أحد مشرفي الصفحة نشره من دون تنسيق مع الشيخ. وإذا كانت التيارات الإسلامية قد رسمت صورة شيطانية للجيش التركي عام 1999، إلا أن الصورة اختلفت تماما بعد 24 عاما لأسباب معروفة، فلم يتحدّث أحد عن أي إهاناتٍ مزعومةٍ للقرآن أو أي معاصٍ ارتُكبت في قواعد الجيش التركي!

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.