زلزالٌ يصيب المباني والمعاني
تردّدت تداعيات كارثة الزلزل التركي السوري في أرجاء واسعة من العالم، وقد استحوذ الحدث منذ فجر الإثنين، 6 فبراير/ شباط الجاري، على الاهتمامات الدولية، حتى أنه غطّى على الحرب الروسية على أوكرانيا، وعلى ذيول تفجير المنطاد الصيني في سماء الولايات المتحدة. ويكمن مبعث الاهتمام بالحدث المزلزل في الخوف المشترك من غضب الطبيعة ومفاجآتها الثقيلة، واحتمالات أن تتجدّد هذه الكارثة في أي مكان، وبخاصة في المناطق التي تشهد عادة نشاطاً زلزالياً. وإلى ذلك، هناك التعاطف الفِطري للبشر الأسوياء مع الضحايا الأبرياء الذين دهمتهم الكارثة قبيل الفجر، فيما هم نيام يلتمسون الدفء في أشد أيام فصل الشتاء برودة. وهناك كذلك ما يمكن رصده من يقظة الشعور بوحدة مصير العائلة البشرية على كوكب الأرض.
وإلى هذه المعاني العامة للتعاطف الواسع، ثمّة تعاطف وتضامن من طبيعة خاصة مع تركيا والأتراك، نظرا إلى الموقع الحيوي الذي يحتله هذا البلد الآسيوي الأوروبي في موازين السياسة والاقتصاد، ومظاهر التقدّم الشامل التي بلغتها بلاد الأناضول على مدى العقدين الماضيين، حتى أصبحت قبلة للسياحة والتعليم والأعمال، وكذلك مقصدا للهجرة، الشرعية منها وغير الشرعية، حتى لم يبق بلد يسعُه تقديم العون والمساعدة إلا وبادر إليها، ما دلّل على المكانة التي يمثلها هذا البلد ذو الـ 86 مليون نسمة في عقول شعوب الشرق والغرب ومجتمعاتهما وقلوبهم. ورغم التقدّم الاقتصادي والصناعي والعلمي والتقني الذي بلغه الأتراك منذ بداية هذه الألفية على الخصوص، إلا أن مسؤوليها لم يكتُموا حاجتهم للمساعدة لمواجهة هذه الكارثة التي تتطلّب خبراتٍ استثنائية ومعدّات دقيقة، وخلال أمد زمني قصير من أجل محاولة إنقاذ عاجل لآلاف المنكوبين تحت الأنقاض في عشر مدن كبيرة. ومع أنه تم الدفع بجميع إمكانات مؤسّسات الدولة، المدنية منها والعسكرية، إلا أن عدد الضحايا كان كبيرا وعدد الجرحى والمصابين أكبر، وذلك لشدة درجة الزلازل ولانهيار آلاف المباني على رؤوس ساكنيها في دقائق معدودة. ولولا سرعة الاستجابة وكفاءتها لكانت أعداد الضحايا أكبر، ولما أمكن إنقاذ آلاف المصابين من مصير أقسى تحت الركام الثقيل.
وحّد الزلزال السوريين مجدّدا وجمعهم في مصير مأساوي واحد، علاوة على ما جمعهم من صنوف المأساة طيلة سنوات الصراع
على الجانب السوري، يدرك القاصي والداني حجم الخراب والضائقة المعيشية التي حلّت بهذا البلد منذ أزيد من 12 عاما، وقد تسبّبت بموجات لجوءٍ إلى الخارج ونزوح إلى الداخل لا مثيل لها في التاريخ السوري، مع تضرّر أعدادٍ لا تُحصى من البيوت والبنايات، نتيجة تعرّضها للقصف بالصواريخ والمدفعية الثقيلة والبراميل المتفجّرة. ولهذا وقع الزلزال الرهيب على بُنيةٍ عمرانيةٍ ضعيفةٍ ومتصدّعة، وعلى بيئةٍ تشكو من عوامل التدمير والتخريب التي طاولتها على مدى السنوات الماضية، وفي أجواء من الفقر المُدقع وافتقاد مقوّمات الحياة الأساسية من غذاء ودواء وطاقة. وكان من المفارقات المؤسية أن ساكني الخيام في شمال غرب سورية، على ما يعانونه من بؤس مُريع في فصل الشتاء، إلا أن حظ هؤلاء التعساء كان أوفر لدى وقوع الزلزال الرهيب، إذ إن سقوط خيامٍ قماشيةٍ على رؤوس ساكنيها لم يحمل مخاطر الوفاة، كما هو حال ساكني البنايات التي بُنيت على عجل، وبأقل التكاليف في ظروف التشرّد والسعي إلى توفير مأوى بأسرع الوسائل، علاوة على ما لحق ببعض البيوت والبنايات من أضرارٍ شديدة نتيجة التأثر بقصف الصواريخ وقذائف الطائرات. وقد اضطرّ ساكنوها للبقاء فيها بعد نجاتهم، وذلك لانعدام البدائل أمامهم.
وقد شاء غضب الطبيعة أن يشمل مناطق، مثل اللاذقية وطرطوس وحماة وجبلة، إلى جانب ريف حلب ومدينة إدلب وريفها، ما وحّد السوريين مجدّدا وجمعهم في مصير مأساوي واحد، علاوة على ما جمعهم من صنوف المأساة طيلة سنوات الصراع. وقد اكتشف السوريون خلال هذا الحدث الرهيب أنهم يفتقدون ما يمكنهم معه التعامل مع آثار هذه الكارثة. وبينما أمكن إيصال المساعدات الضرورية العاجلة إلى بعض المناطق، فإن مناطق أخرى في شمال غربي البلاد لم تتلق شيئا من المعونات طوال الأيام الثلاثة الأولى، وهي الفترة الحرجة التي تحدّد مصير الذين تحت الأنقاض، باستثناء النزر اليسير مما كان مُخزّنا في مستودعاتٍ تتبع لجمعيات إغاثة تركية. عسى أن يستلهم جميع السوريين من هذه الكارثة الطبيعية أفضل الدروس، من أجل تجديد أواصر وحدتهم الوطنية ونبذ ما يفرّقهم، وإعادة الاعتبار للوطنية السورية الجامعة التي تضمّ الجميع في سائر المناطق، وهو درس لا بد من التوقف عنده والأخذ به في مسعاهم خلال الفترة المقبلة، لإعادة بناء ما هدمته الكوارث السياسية والطبيعية على الأرض والحجر وفي النفوس، وإعادة شمل السوريين في وطنهم.
إذا كانت الكارثة قد جمعت السوريين والأتراك من دون أن يملك أحد الاعتراض على حكم القدر، فكم بالحريّ أن تجمعهم أسباب الحياة والجوار
كما جمعت الكارثة الأتراك والسوريين معا، فقد وقعت الزلازل بصورة متزامنة في البلدين الجارين، وأصابت قطاعات واسعة من الشعبين معا، وكأنما أضافت ديناميات الجغرافيا هذه المرّة المزيد من الوشائج على الروابط التاريخية التي تجمع البلدين والشعبين. وأبعد من هذا، ذهب ضحية الكارثة الأليمة التي أصابت عشر مدن تركية آلاف الأتراك والسوريين في تلك المدن جنوب تركيا، إذ انهمك المسعفون على مدار الأيام الماضية في محاولة إنقاذ المنكوبين، وقد نجحوا في إنقاذ آلاف من الأتراك والسوريين معا، كما قضى في تلك المأساة وأصيب الآلاف من الأتراك والسوريين معا في المدن التركية. وبهذا جمعت هذه المأساة الأتراك معا، والسوريين معاً، كما جمعت الأتراك والسوريين معا، وذلك في تذكيرِ عنيفٍ بأن ما يجمع هؤلاء أكبر وأعمق مما يفرّقهم. وإذا كانت الكارثة قد جمعتهم من دون أن يملك أحد الاعتراض على حكم القدر، فكم بالحريّ أن تجمعهم أسباب الحياة والجوار، وروابط التاريخ والثقافة والإخاء الروحي والإنساني.
ولا يكتمل المشهد إلا بملاحظة أنه، إلى جانب مظاهر الكارثة ونتائجها الأليمة، سوف تسجّل، بسجلٍّ من الضوء، تضحيات وحنكة ما لا يُحصى من المنقذين وعمّال الإغاثة والحماية المدنية والدفاع المدني من شتّى الجنسيات الذين واجهوا أقسى الظروف الطبيعية والمخاطر الموضعية، من أجل إنقاذ حياة الأبرياء، ما يستحقون معه أعلى درجات التقدير، باعتبارهم فرسان الأمل وأبطال العمل الإنساني. وإلى جانب هؤلاء، استشعر جموع من الأهالي غياب عمليات الإنقاذ في بلداتٍ بعينها لضعف الإمكانات، فهبّوا من تلقائهم وبأبسط المعدّات في حوزتهم، وباشروا عمليات الإنقاذ في ساعات الليل شديدة البرودة، وفي مشاهد لا تُنسى من الشجاعة والإيثار.