زلزالنا أكبر من زلزالكم
نحن أمام زلزال واحد في امتداد جغرافي واحد، يضم كتلة بشرية واحدة لها الملامح ذاتها، لكنها تنقسم، بالمصادفة، إلى جنسيتين، التركية والسورية.
هنا يمتزج الشمال السوري بالجنوب التركي في وحدةٍ طبيعيةٍ واحدة، ويلعقان جرحًا عميقًا واحدًا، ويواجهان دمارًا واحدًا، فما الذي يمنع أن تكون المواجهة واحدًة وبالتساوي، من دون تفرقةٍ سياسيةٍ أو تصنيف إيديولوجي بين البشر؟
أحضر الزلزال الموت والخراب في سلّة واحدة، لم يفرّق بين هذا وذاك، غير أنّ هناك من البشر من اختار أن يكون الغوث في سلتين مختلفتين حجمًا وامتلاءً ومحتوى، ليفقد مفهوم "الإغاثة الإنسانية" في هذه اللحظة معناه الحقيقي، وتتلوّن الإغاثة بأصباغ المصالح الاقتصادية والسياسية، الثنائية منها والمجمعة.
ما الذي يمنع العالم المتحضّر، وهذه المنظمات الأممية التليدة، من اعتبار المساحة الجامعة بين الجنوب التركي والشمال السوري منطقةً منكوبةً واحدة، تتلقّى المساعدات ذاتها، ويجد سكّانها الغوث ذاته من الحكومات والمنظمات والأفراد؟ ما الذي يجعل كلّ قسم من قسمي الكارثة، يتحدّث عن خسائره من البشر والحجر منفردًا، وكأننا بصدد زلزاليْن وكارثتيْن، يتسابق طرفاهما على لقب الأكثر تضرّرًا؟ وما الذي يحول دون توّجه الجسور الجوية الناقلة للمساعدات وأطقم الإنقاذ والعلاج، والمعونات المادية، إلى مكان واحد تتوّلى الإشراف عليه، مؤقتًا، الأمم المتحدة، بحيث تتحقّق المساواة بين المنكوبين شمالًا وجنوبًا؟
الحاصل أنّ كلّ التقارير الصادرة من هيئات إغاثية، وتغطياتٍ إعلامية تنقل فظائع وأهوال يكابدها المنكوبون من الشعب السوري في مناطق الشمال السوري، الذين يواجهون تحالفًا ثنائيًا وحشيًا من الجيولوجيا والسياسة، فهم، من ناحية، ليسوا من ضمن أولويات النظام السوري الذي يتلقى المساعدات والمعونات، باسمهم، من دون أن يصل إليهم منها شيء. ومن الناحية الأخرى، تحرمهم الحدود الجغرافية الطبيعية من تلقي نصيبٍ من الإمدادات التي تصل إلى شركائهم في الفجيعة في الشمال.
لو دقّقت في قائمة الحكومات التي هبّت لنجدة البلدين المنكوبين، ستكتشف أنّ الإنسان بما هو إنسان ليس المستهدف وحده من هذه الإغاثات السريعة، فأكثر الذين يساعدون دمشق لا يفعلون الشيء نفسه مع أنقرة، والعكس أيضًا يحدُث، في تجسيدٍ كاملٍ لوضعية الاستقطاب السياسي الذي يطغى على العمل الإنساني الخالص، ناهيك عن أجواء التنابز بالمساعدات بين جماهير حكوماتٍ تقدّم مساعداتها وفق دوافع دبلوماسية.
وهذا تجده، كذلك، على مستوى الرأي العام، إذ تتوّزّع حصص المشاعر والتعاطف تبعًا للموقف من النظام السياسي في البلدين المنكوبين، ليصل الأمر إلى درجاتٍ من السخرية والتشفّي أحيانًا، وكأن الضمير الإنساني قد استقر هناك تحت ركام الأبنية المهدمة بفعل الزلزال، ولا يجد من يستخرجه.
والحال كذلك، تبدو المصيبة أعظم عند المنكوبين في مناطق الشمال الغربي السوري، والتي يعتبرها نظام بشار الأسد منطقةً معادية. وفي ذلك، يكشف الباحث السوري في مجال إدارة النزاع والعمل الإنساني، محمود الحسين، عمق الكارثة في منطقة شمالي سورية، وذلك في دراسة وافية منشورة في موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تفيد من الإحصاءات الصادرة عن تقرير الاحتياجات الإنسانية للسوريين لعام 202٣، إنّ المدنيين في شمال غرب سورية، على وجه التحديد، يعيشون أوضاعًا كارثية؛ إذ عددهم 4.6 ملايين نسمة؛ منهم 4.1 ملايين محتاج، من بينهم 1.8 مليون يعيشون في المخيمات، وسط أوضاعٍ بائسة، تزداد قساوةً في فصل الشتاء. يترافق ذلك مع استهدافٍ متكرّر للطيران الروسي لتجمّعات المدنيين في تلك المنطقة.
حسب الدراسة نفسها، فإنّ مجلس الأمن في يناير/ كانون الثاني 2023، جدّد قرار إرسال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى شمال تلك المنطقة، وهو ما يعني أنه ليست هناك عقباتٌ قانونيةٌ تحول دون توجيه المساعدات المتعلقة بإغاثة ضحايا الزلزال مباشرة إلى المنطقة المنكوبة، الأمر الذي يجعل من إصرار بعض الحكومات على إرسال المساعدات لحكومة بشّار الأسد إلحاقًا للأذى بمستحقيها، وتضامناً مع النظام السوري في التنكيل بهم.
من أراد إغاثة البشر، فالعنوان معروف والطريق واضحة، أما إرسال المساعدات إلى حكومة دمشق، فليس إلا استثمارًا لكارثةٍ طبيعيةٍ في انتشال طاغية ودفن شعب، وهذا هو الاختبار الذي رسب فيه كثيرون، فتحيّة لأصحاب الضمير.