زعماء "الشنطة"

31 يوليو 2022

بوتين في مطار طهران وبجانبه رجل يحمل حقيبة تلازمه أينما ذهب (19/7/2022/فرانس برس)

+ الخط -

لم يشدّني الرئيس فلاديمير بوتين في زيارته أخيرا إلى طهران، قدر ما شدّني رجل الظلّ الذي كان يتبعه ويمشي خلفه أينما اتجه، وبيده حقيبة دبلومسية سوداء (شنطة)، وعلى الأغلب أنها "الحقيبة النووية"، التي تحتوي على شيفرات إطلاق الصواريخ المحملة بالرؤوس المدمرة. والأمر نفسه ينسحب على حقيبة الرئيس الأميركي الذي يحرص، هو الآخر، على تبعية "رجل الظلّ" له، أو "حامل الحقيبة" الجهنمية.

في المجمل، هذا الرجل غالبًا ما يكون خارج الأضواء، ويصعب تذكّر ملامحه في المناسبات العامة. ولكل رئيس، بالطبع، "ظلّه" الخاص به، حتى وإن لم تكن الحقيبة "نووية"، لكن يبدو أنه أصبح نوعًا من البروتوكول، إذ لا ينبغي للزعيم أن يحمل أي حقيبة أو متاع، حفاظًا على هيبته ووقاره.

عربيًّا، لقّب الرئيس الراحل حسني مبارك بأنه "حامل ملفات السادات"، فقد كان أشبه بـ"رجل الظل" الذي يتبع الرئيس أنور السادات، في المطارات والمناسبات والاجتماعات، حاملًا حقيبة الرئيس، ولعله حامل الحقيبة الوحيد الذي أصبح رئيسًا في ما بعد، ومن المفارقة أنها كانت حقيبة أكبر حجمًا من حقيبتي الرئيسين الأميركي والروسي، وبقية الرؤساء "النوويين"، بما يوحي، للوهلة الأولى، أنها حقيبة تتجاوز الشيفرات النووية بكثير، لولا أن "الماء يكذّب الغطّاس".

ومن حسن حظّ الزعماء العرب أن حقائبهم الدبلوماسية لا تتعرّض للتفتيش في المطارات، لتكشف ضحالة ما يحملونه وضآلته، فما الذي نتوقع وجوده داخل حقائبهم الدبلوماسية الضخمة التي يحملها رجال الظل من خلفهم؟. لا أبالغ إن قلت إنّ حقائبهم الجلدية هذه تشبه حقائب الحلاقين في الزمن الغابر، الذين كانوا يجولون بين الأحياء السكنية، ليعرضوا خدمات الحلاقة المباشرة أمام البيوت. كانوا أشبه ما يكونون بـ"حلاق دلفري"، بل كان بعضهم يتجاوز حدود الحلاقة ليعرض خدماتٍ أخرى، كختان الأطفال، وتجليخ السكاكين.

وينطبق الأمر نفسه على زعمائنا وحملة حقائبهم، مع اختلاف المهن، بالطبع، فزعماؤنا على الأغلب تكتظّ حقائبهم بما يشبه "الخدمات" و"العروض" لمن يدفع أكثر. أحدهم، مثلًا، يحمل عرضًا بإنشاء قاعدة عسكرية لبلد الزعيم الذي يستضيفه، أو تأجير جيشه لمهمّة قذرة، أو لتولي مهام تحقيق بالوكالة عن أجهزة الاستخبارات الأجنبية، أو تأجير معتقلاتٍ إن لزم الأمر (وقد لزم)، فزعماؤنا وأجهزتهم الأمنية مميّزون باستهانتهم بحقوق الإنسان وحرياته، وبلادنا ملأى بالمعتقلات ذات الأفواه الفاغرة التي تسأل: هل من مزيد، ومن ثم لا يضيرهم إن وظفوا هذه الخصلة التي يتحلّون بها في خدمة الآخرين الذين لا يجرؤون على مزاولة مثل هذه المهمات القذرة في بلدانهم.

وما دام الحديث يتصل بالحقائب النووية، فلا يبعد، أيضًا، أن يحمل الزعماء في حقائبهم عروضًا "نووية"، على سبيل المضاهاة، كأن يعرضوا على تلك البلدان دفن نفاياتهم النووية في "محميّاتهم" التي كانت تسمّى "أوطانًا" قبل اغتصابهم السلطة.. فتغدو المفارقة "حقيبة نووية" مقابل حقيبة نووية، الأولى للإطلاق، والثانية للاستقبال؛ إذ لا فرق بين انفجار القنبلة ونفاياتها.

تلك مهمّات زعمائنا في الخارج، أما في الداخل فثمّة مهمات أخرى للحقيبة، بعد أن تضخّمت جيوبهم بالمنهوبات، فهي وحدها المهيأة دومًا للاصطحاب إن دارت الدوائر عليهم واضطروا للهرب من بلدانهم، كما فعل رؤساء إبّان ثورات الربيع العربي، وما سيفعله آخرون عندما تشتعل الثورات مجدًدا؛ لأنهم ليسوا أزيد من "تجّار شنطة" لا يعنيهم من أمر أوطانهم إلا ما يملأ حقائبهم، وعندها لن يحتاجوا إلى رجال الظلّ حتى، فهم على استعداد لحمل حقائبهم على ظهورهم كالعتّالين إن اقتضت الحال.

وفي غمرة هذا وذاك، يتناسى زعماؤنا أنهم ليسوا أزيد من "رجال ظلّ" لساسة الغرب، مع فارق بسيط، أن زعماء الغرب لن يسمحوا لهم بحمل حقائبهم البتة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.