"رواية حماس".. ماذا بعد؟
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
على الرغم من تأخّر بيان حركة حماس "هذه روايتنا... لماذا طوفان الأقصى؟" (21/1/2024)، فقد جاء لكي يقدّم روايتها لعملية 7 أكتوبر وأسبابها وأهدافها وسياقاتها، في إطار التصدي للدعاية الصهيونية/الغربية، الرامية لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية دائما، وسلب "الإنسان الفلسطيني"، طفلا كان أم امرأة أم شابا أم شيخا، أبسط حقوقه في العيش بحرية وكرامة على تراب وطنه.
وفي إطار تقويم هذا البيان ونقده، وتحليل مكامن قوته وأوجه قصوره، ثمة خمس ملاحظات متداخلة؛ أولاها تتعلق بإيجابيات البيان ونقاط قوته؛ إذ يبدأ باستحضار "البعد التاريخي" في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، "الذي لم يبدأ في السابع من أكتوبر 2023"، بل يرجع إلى زمن الاستعمار البريطاني، الذي أوجد البيئة المناسبة لإنشاء مؤسسسات الكيان الصهيوني، ودعمها بفتح باب الهجرات اليهودية إلى فلسطين، بالتوازي مع الإصرار البريطاني على حرمان الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير. وقد أحسن البيان بتذكيره بمعاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ عقود طويلة، ناهيك عن فرض حصار خانق على قطاع غزة منذ 17 عاما، وتحويله "أكبر سجن مفتوح في العالم" وتعرضه لخمس حروب مدمِّرة.
وإلى ذلك، يشير البيان إلى إحصائيات موثّقة تكشف قتل إسرائيل في الفترة (2000- سبتمبر/أيلول 2023) أكثر من 11 ألف فلسطيني أغلبيتهم من المدنيين، ناهيك عن جرح أكثر من 156 ألفا آخرين، من دون أن تلتفت إليهم واشنطن وحلفاؤها، مثلما تباكوا على القتلى الإسرائيليين في السابع من أكتوبر.
ومن الإيجابيات أيضًا وصف حركة حماس نفسها بأنها "لا تعادي اليهود، وأنها حركة إسلامية وسطية وحركة تحرر وطني"، وهو تأكيد لما جاء في "وثيقة المبادئ والسياسات العامة"، التي صدرت (1/5/2017)، خصوصا المادة 16: "تؤكد حماس أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعا مع اليهود بسبب ديانتهم، وحماس لا تخوض صراعا ضد اليهود، وإنما تخوض صراعا ضد الصهاينة المحتلين المعتدين".
كذّب بيان حماس بوضوح، الادعاءات الإسرائيلية، التي روّجها كثيرون حول قتل الأطفال الرضع واغتصاب نساء إسرائيليات
وإذ يعترف البيان باحتمال حدوث خلل أثناء تنفيذ عملية "طوفان الأقصى"، (بسبب انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وحدوث بعض الفوضى نتيجة الاختراقات الواسعة للسياج الفاصل)، فإنه يؤكد أن العملية استهدفت "فرقة غزّة العسكرية" والمواقع العسكرية في مستوطنات غلاف غزة، بغية أسر جنود ومقاتلين إسرائيليين لإجبار دولة الاحتلال على إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين.
تتعلق الملاحظة الثانية بتأكيد البيان أن حركة حماس تتجنّب استهداف المدنيين (خصوصا النساء والأطفال وكبار السن)، وهو التزام رافق الحركة منذ انطلاقتها عام 1987، بالإضافة إلى عرض حماس، بعد تنفيذ المستوطن باروخ غولد شتاين، مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل (25/2/1994)، مبادرة بتجنيب المدنيين ويلات الصراع، من قبل كل الأطراف.
لقد كذّب بيان حماس بوضوح، الادعاءات الإسرائيلية، التي روّجها كثيرون، (ومنهم الرئيس الأميركي، جو بايدن) حول قتل الأطفال الرضع واغتصاب نساء إسرائيليات.. إلخ، والأهم أن حماس برهنت بالدليل الملموس على تعاملها الإيجابي في ملف الأسرى المدنيين، الذين أطلق سراحهم إبان "الهدنة الإنسانية" (24-30/11/2023).
تتعلق الملاحظة الثالثة بالمستهدَفين من البيان؛ إذ يخاطب ثلاث فئات: الشعب الفلسطيني، الشعوب العربية والإسلامية، و"أحرار العالم مناصري الحق ورافضي الظلم، والمدافعين عن الحرية والعدالة وكرامة الإنسان، في كل مكان".
حاجة ملحة إلى بلورة استراتيجية تحرر فلسطينية ضد نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد" الإسرائيلي
ولعل هذا ما يفسّر تركيز البيان على أربع رسائل إضافية؛ أولاها ازدراء دولة الاحتلال التقارير الموثّقة لمؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية للانتهاكات الإسرائيلية، وقيام سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد أردان (29/10/2021)، بتمزيق تقرير مجلس حقوق الإنسان. وثانيتها التعامل الأميركي والغربي مع إسرائيل، منذ إنشائها، "دولة فوق القانون"، ودعم استمرار احتلالها فلسطين وقمع شعبها ومصادرة حقوقه و"تهجيره" من أرضه، ناهيك عن "الفيتو" الأميركي الغربي أمام أية محاولة لإدانة إسرائيل، ما يجعل هذه الدول "شريكا كاملا" للاحتلال في جرائمه المستمرة. وثالثها رفض إسرائيل القاطع قيام دولة فلسطينية، كما جاء في خطاب رئيس الوزاء بنيامين نتنياهو، أمام الأمم المتحدة (22/9/2023). ورابعها إصرار إسرائيل على تدمير إمكانية قيام دولة فلسطينية وتوظيفها اتفاق أوسلو 1993 لتكثيف الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية، خصوصًا في القدس الشرقية.
تتعلق الملاحظة الرابعة بالانعكاسات المحتملة لبيان حماس، على مسار السياسات الدولية والإقليمية تجاه حرب غزّة؛ فالأرجح أن تأثير البيان لن يظهر سريعا، (تماما كما حدث بعد وثيقة حماس للسياسات العامة عام 2017)، بل المفارقة أن مسار العقوبات الأميركية والبريطانية (والغربية عموما) قد يتصاعد، خصوصا تجاه وكالة الأمم المتحدة لتشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، لأن الهدف الإسرائيلي الواضح من "حرب الإبادة" هو تهجير أهالي قطاع غزة، أو إعادة "استيطانه" كما تطالب قوى الصهيونية الدينية المتطرفة، ما يؤكد أن السلوك الإسرائيلي ليس متعلقا بالرد على هجوم 7/10/2023، وإنما بتنفيذ استراتيجيات وخطط معدة سلفا، ربما في إطار صفقة القرن، في الذكرى الرابعة لطرحها من الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.
وهذا يؤكد أن البعد الأميركي/ الدولي يبقى حاسما في تحجيم المكاسب السياسية لحركة حماس من "طوفان الأقصى"، في ظل بروز ما يشبه "التحالف الدولي/ الغربي ضدّ حرية فلسطين وشعبها"، بقيادة الرئيس بايدن.
وعلى الرغم من أن حكم محكمة العدل الدولية (26/1/2024) يؤكد إخفاق "السردية الإسرائيلية" ومحدودية نتائج سياسات "شيطنة الفلسطينيين"، خصوصا حركة حماس، وفشل محاولات إسرائيل استدعاء سردية "مكافحة الإرهاب" من جديد، إلى صدارة الأجندات الدولية والإقليمية، فإن ثمة حاجة ملحة إلى بلورة استراتيجية تحرر فلسطينية ضد نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد" الإسرائيلي، استرشادا بنجاح نضال نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
التحدي المستقبلي الأكبر أمام الشعب الفلسطيني، يتعلق بضرورة صياغة مشروع تحرري يعيد موضعة قضية فلسطين عربيا وإقليميا وعالميا
تتعلق الملاحظة الأخيرة بالتحديات الراهنة والمستقبلية أمام حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية عموما؛ سيما كيفية نقل الصراع إلى مساحات الضفة الغربية والقدس، كونها الأكثر تأهيلًا لخوض "معركة النفس الطويل" مع قوات الاحتلال، إضافة إلى أهمية عدم استعجال تداعيات "طوفان الأقصى" وضرورة إصرار المفاوض الفلسطيني على إخراج المدنيين والمجتمع من بطش قوات الاحتلال وانتقامها الدموي.
باختصار، جاءت صياغة بيان حماس جيدة، وظهر فيها قدر من "الحجج التركيبية"، التي تستبطن معنى "لعم"، (مقارعة حجج الخطاب الدعائي الإسرائيلي بحجج فلسطينية مضادة، معمّدة بفعل "التفوق الأخلاقي الإنساني" الفلسطيني، كما اختصرها مراسل قناة الجزيرة في غزّة وائل الدحدوح إثر استشهاد نجله حمزة، "هذا هو قدرنا ويجب أن نقبل به مهما كان، نحن ماضون وهذا هو التحدي الكبير، نحن مشبعون بالإنسانية وعدونا مشبع بالقتل").
وعلى الرغم من زيف الدعاية الصهيونية، وتضليلها العالم على مدار عقود طويلة، عبر "احتكار دور الضحية الدائمة"، فقد أحسنت حركة حماس صنعا برفضها ما تعرض له اليهود من جرائم النازية، على الرغم من كون المشكلة اليهودية في جوهرها "مشكلة أوروبية".
يبقى القول إن التحدي المستقبلي الأكبر أمام الشعب الفلسطيني، يتعلق بضرورة صياغة مشروع تحرري يعيد موضعة قضية فلسطين عربيا وإقليميا وعالميا، على نحو يتناسب مع التضحيات الفلسطينية المشهودة؛ فالمؤكد في هذا السياق أن الخطاب الإعلامي والسياسي الفلسطيني لا يزال يحتاج إلى مزيد من التطوير، لمواجهة تصاعد مخاطر سياسات نتنياهو في تصدير أزماته الداخلية عبر افتعال مشكلات أكبر مع إيران وحلفائها في إقليم الشرق الأوسط.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.