رمضان ... طقوس وروائح وحكايات

13 ابريل 2023
+ الخط -

يأتي كل سنة في موعده المحدّد، ويحمل شهرٌ من أشهر السنة الهجرية اسمه، يَعْبُر وهو قادم مختلف أشهر السنة الميلادية وأيامها، من دون توقف أو انقطاع. يأتي سنةً في الصيف وأخرى في الشتاء، عابراً مختلف فصول السنة الميلادية. يحمل قُدومه المؤكّد طقوساً وروائح وحكايات، كما يحمل في أصله الأول معتقداتٍ وأنظمة في العيش، تختلف عن المألوف والمعتاد خلال أيام السنة الأخرى وأشهرها. ابتكر الذين يؤمنون بفضائله ومزاياه التَّعَبُّدية والاجتماعية أنظمة في العيش قادرةً على استيعاب متطلباته وتطويعها مع ما يلائم ظروف عيشهم وعملهم، ظروف نومهم ويقظتهم، صحّتهم ومرضهم.

تأخذ مظاهر التعبّد في رمضان سماتٍ مُحدَّدة، تتمثَّل في قليل أو كثير من الزهد والتَّعفُّف. يمتلئ الشهر بالابتهالات والذِّكر والأدعية وصلوات التراويح وأحلام ليلة القدر. ورغم كل ما قيل ويقال عن هذا الشهر منذ ما يزيد على 1400 سنة، فقد انتظم حضورُه بإيقاعٍ متواتر، ولا يبدو في الأفق اليوم ما يشير إلى إمكانية زحزحة الآثار التي رسمت في حياة الجماعات المسلمة في التاريخ، خصوصاً أنه تَجسَّد في طقوس اجتماعية وثقافية منحت روحه التعبُّدية، ومختلف الروائح التي تملأ فضاءات البيوت بحضوره مواصفاتٍ مُعيَّنة، الأمر الذي مَكَّنه من مزيد من الرسوخ والثبات.

منذ استأنستُ بحضوره السنوي، وألفتُ نمط تغذيته ومختلف مظاهر الحياة التي ترتبط بأيامه وتختلف عن المألوف والمعتاد، أدركتُ أن ما يسمّيه بعضهم الشهر الفضيل، ولا يتردّد الناس وهم يتبادلون التحية بمناسبة قدومه بنعته بشهر الكرم، شهر التوبة والصيام، أدركت أنه رزمةٌ من الروائح والطقوس والحكايات. وقد ساهمت أشهره المتعاقبة منذ مئات السنين في نسج حكاياتٍ عديدة، فأصبح لا يحضُر إلا بها، ولا يُعرف إلا بالآثار التي تَرسمها في حياة المجتمعات المسلمة. يستعيد الصائمون كل رمضان الحكايات نفسها بصيغ وألوان متشابهة، تُستعاد فيه أدعيةٌ وأذكار وابتهالات ليلة القدر وأحلامه كل سنة. يحكيها الكبار للصغار بكثيرٍ من الحب والسخاء، تُحْكَى أحلام لليلة القدر والعشر الأواخر كل سنة بالكلمات نفسها. يتطلَّع الصائمون إلى نَيل التوبة والمغفرة ونَيل ما يرغبون. ففي هذه الليلة التي تتخلَّل العشر الأواخر من أيامه يأتي الفرج، فلا يمكن الحديث عن رمضان من دون طقوس وروائح وحكايات.

لا شهر من الشهور يمتلك المزايا والآثار التي تشير إلى شهر الصيام والتراويح والابتهالات والتّوبة وأحلام ليلة القدر

لا أحد يستطيع إنكار أن شهر رمضان يتمتّع بروائح خاصة، روائح أيامه ولياليه تبدأ في الأذهان أولاً، لتتحسّسها بعد ذلك مسامّ الجسم، فتساهم في تأطير كل ما يتحرّك في فضاءات المجتمع. داخل الأسرة والمسجد وفي أماكن العمل. ولا علاقة للروائح التي نتحدّث عنها بالتغذية بمختلف أشكالها، وبكل ما يطرأ عليها من تحوُّل طوال هذا الشهر، ذلك أن الصيام يدفع الناس إلى ابتكار قواعد وأسواق وموائد بألوان وأشكال وطعوم لا حصر لها، الأمر الذي يُسعف بإمكانية الانتصار على عناء الصيام، وعلى النتائج المترتّبة عنه طوال ساعات الانقطاع عن الأكل والشراب، التي تصل، في بعض الفصول والبلدان أحياناً، إلى ما يتجاوز 15 ساعة.

ترتبط الروائح الرمضانية في البيوت والأسواق بالصيام وبأحاسيس الصائمين. ولهذا السبب، أستعيدها اليوم في ذهني من زمن الطفولة، أستعيدها بأحاسيس مُركَّبة من مزيجٍ من الذكريات المرتبطة بالشتاء والربيع والصيف والخريف، حيث استأنستُ، خلال تعاقب سنوات العمر، على روائح مطبخ الصيام وحكاياته. تُمنح للروائح المرتبطة بالأطعمة في رمضان مذاقاتٌ مضاعفة، فهي تساهم في تغذية الوجدان بما يُمَكِّنه من مُتَعٍ مرغوبٍ فيها، مُتَعٍ يشعر بأنه محرومٌ منها، وعليه أن ينتظر أذان المغرب كل يوم، ليقترب من موائدها وَينعمَ بجميل ألوانها ومذاقاتها.

لا شهر يتمتّع بما يتمتّع به شهر رمضان مقارنة بباقي أشهر السنة، كل الشهور تتابع، تَعْبُر لترسم بحضورها جملةً من الآثار والمخلفات، لكن لا أحد منها يمتلك المزايا والآثار التي تشير إلى شهر الصيام والتراويح والابتهالات والتّوبة وأحلام ليلة القدر، وهي "خيرٌ من ألف شهر"... لهذا السبب، وسمنا الشهر بشهر الطقوس والحكايات، ولا تتمثل طقوسه ببعض العبادات التي تبرُز خلال أيامه ولياليه، بل تتجلّى في مختلف الأجواء الروحية المقرونة به، والكاشفة عن أنماط حضوره الاجتماعي والثقافي، حيث تساهم الطقوس المرتبطة به في عمليات تحويله وترويضه، ذلك أن موائد الإفطار وطقوس التغذية تتحوّل كلياً من النهار إلى الليل، إضافة إلى أنها تكون مصحوبةً بحكاياتٍ كثيرةٍ تضفي عليها مواصفات خاصة.

تحرص أغلب المجتمعات الإسلامية على استعادة حكايات ومواقف بصورة تكرارية كلما حَلَّ شهر الصيام

يمكن أن نشير إلى حرص أغلب المجتمعات الإسلامية على استعادة حكايات ومواقف بصورة تكرارية كلما حَلَّ شهر الصيام. وإذا كان من المؤكّد اليوم أن الإعلام المسموع والمرئي قد ساعد في عملية المحافظة على تقاليد كثيرة مرتبطة بالصيام، كما جرت في التاريخ، فإن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، وقد أصبحت فضاءً مرتبطاً باليومي في حياتنا، تساهم في تطوير سرديات الشهر وحكاياته وتلوينها وتوسيعها، والإنتاج المتبادل اليوم نقلاً من مواقعها ومنصّاتها، وكثير منه أصبح يُعَدُّ خِصِّيصاً لهذا الشهر، يزكّي الطابع الحكائي للشهر ويرسّخه ويصنع ثقافته، كما يزكّي أغلب طقوسه، ويضفي عليها طابع الثبات والخلود. ولهذا السبب نقول إن رمضان شهر الحكايات. ويُشكِّل فيض حكايات منصّات التواصل الاجتماعي ما يفوق ما ألفناه في المسلسلات التاريخية والاجتماعية الرمضانية المصرية والشامية، وقد رسمت الملامح الكبرى لبعض أوجُه الثقافة العربية، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، قبل النسج على منوالها في أغلب البلدان العربية.

تتطاير في فضاءات التواصل الاجتماعي روائح وَصفات الأكل الهادفة إلى مغالبة الصيام، كما تتطاير طقوس العبادات والقراءات والأمداح المرتبطة به. وفي قلب ذلك كله، تشكّل المرويات والحكايات الأفق الجامع لما ذكرنا، حيث لا يحضُر رمضان إلا بحضور هذه الحكايات، وأكثر الحكايات غرابةً وجمالاً ترتبط بالعشرة أيام الأخيرة في الشهر، حيث تحلّ ليلة القدر المرتبطة بالذِّكْر والتوبة والأدعية، وحيث يقترب رمضان من نهايته، ليعود بعد ذلك ولا يخلف موعده.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".