رسائل من تحت الماء
وجّه البحر، في أواسط شهر يونيو/ حزيران الجاري، رسائل موحشة، إثر وقوع حادثين مروِّعين. الأول: محمّل بـ750 إنساناً في البحر المتوسط، هاربين من جحيم بلادهم نحو ما يعتقدون أنه خلاصهم، يكابدون الخوف، ويحدوهم الأمل بأن يصلوا إلى شواطئ إيطاليا. محشورون في سفينة صيد دفعوا للمهرِّبين دماء قلبهم ليركبوها. لا اسم لها هذه السفينة، قديمة مهترئة، تسَع أقلّ من ربعهم. يكابرون أمام الخوف الذي يلازمهم. ينطلقون من طبْرق الليبية، غير عارفين أن مهرّبيهم غشّوهم، أوهموهم بأن السفينة آمنة، وأنهم سيبلغون مقصدهم. وفي طريقهم إلى إيطاليا، قريباً من الشواطئ اليونانية، بدأت سفينتهم بالغرق، فخرجت منها نداءات الاستغاثة. وأفراد خفر السواحل اليوناني لا يتحرّكون، يتباطأون في التبليغ عن الكارثة. ما سرّع من غرق السفينة. فكانت النتيجة أن مئة إنسان أنقذوا أنفسهم من الموت في هذه الحادثة، بالسباحة نحو الشاطئ. وانتشلت من البحر 82 جثة، فيما رقد أكثر من خمسمائة إنسان في البحر، بينهم حوالي مائة طفل.
يقع الحادث الثاني بعد ثلاثة أيام، على بعد آلاف الكيلومترات. في شمال المحيط الأطلسي، على مقربة من الشواطئ الكندية والأميركية. مرْكبة، هي غوّاصة مصغَّرة، مدعمّة بآخر الإنجازات الفيزيائية والكيميائية، ومجهّزة بكل ما يلزم من أجل رحلة سبع ساعات، تنزل إلى عمق أربعة آلاف متر تحت الماء، مزوّدة بكل ما يلزم لتحقيق هدفها. أي مشاهدة حُطام سفينةٍ غرقت منذ أكثر من مائة عام، والمعروفة بفضل السينما باسم "تيتانيك". ومثلها، سمّيت الميني غوّاصة "تايتان"، مستوحية معناها من الميثولوجيا اليونانية، أي "الجبّارة التي لا تُقهر". وعلى متنها خمسة أشخاص. هم مليادير بريطاني، ملياردير آخر باكستاني وابنه، قائد الغوّاصة ومدير الشركة التي صنعتها، وضابط بحرية فرنسية سابق، "متخصّص" بحُطام السفينة الأولى، موضع الفضول. وهؤلاء الخمسة، خلافاً لمئات الهاربين من الخوف على سطح البحر المتوسّط قبلهم بثلاثة أيام، يبحثون عن الخوف، يثيرهم الخوف من أعماق المحيط الأطلسي، يجذبهم. والمشاركة في حفلة التخويف هذه تكلّف كل واحد منهم ربع مليون دولار. فوق أنهم يوقّعون على "تعهّد" بأنهم مدْركون خطر الموت في هذه المغامرة، التي يسمّونها "استكشافية". لكن شيئاً ما اختلّ في نظام المرْكبة، وحصل، حسب التحقيق الأولي، انفجار في قلبها، تمزّقت من بعده أجسام المغامرين، وتناثرت بقاياهم إلى جانب حُطام "التيتانيك" السابقة لهم.
يحظى الأثرياء بمعاملة مختلفة عن تلك التي ينالها الفقراء البائسون اليائسون
الحادث الأول، في البحر المتوسط، بالكاد سمع به العالم. جلّ ما حصل أن تنافساً سياسياً بين الأحزاب اليونانية دفعها إلى المزايدة بعضها على بعض، فصدر بيانٌ من حزب فلان، يستنكر سلبية خفر السواحل، وعدم استجابتهم لنداءات الاستغاثة المتواصلة. ثم حداد وطني، يُعلنه حزب علّان، حزناً على مئات الضحايا الذين ابتلعهم بحرُهم. الصورة التي وصلت إلينا عن الضحايا يختصرها مشهد سفينة الصيد في أولى لحظات غرقها في البحر. لم نعرف وجها واحدا لضحيّة واحدة. فقط بضع لقطات عن إخوة أو أبناء عمومة أو جيران، هرعوا إلى الميناء اليوناني للاطمئنان على قريب أو جار أو صديق. جاؤوا من مدن أوروبية قريبة وبعيدة، استقرّوا فيها، هم أيضا، سبقوا أهل السفينة الهالكة بالهروب من جحيم أوطانهم. وجنسياتهم موزّعة بين فلسطين ومصر وسورية وباكستان وأفغانستان.
أما حادث المغامِرين في المحيط الأطلسي، فكان له دويّ عالمي هائل. حفظنا وجوه ضحاياه، جنسيّاتهم، وأعمارهم، تاريخهم الشخصي، مهاراتهم، قلقهم، شجاعتهم وحبّهم العلم. لم تبق وسيلة إعلامية، موقع تواصل، نشرة أخبار، و"ملاحقها" المتتالية ... إلا وتحدّثت عنهم بأسى، رفعت صورهم، عدّدت مآثرهم، أُعجبت بحبّهم الاستكشاف، وأسْهبت في تعداد صفاتهم النبيلة. ومحاولات إنقاذ هؤلاء المغامرين اشتركت بها جهاتٌ لا تُحصى: حرس الحدود الأميركي، ومع ست طائرات أميركية أيضا، بين عسكرية ومدنية. طائرات كندية تابعة للطيران الكندي، خمس سفن فوق الماء، وعددٌ من السفن المتخصّصة في البحث في أعماق المحيط. وقد عُلِم بعد الحادثة أن البحرية الأميركية كانت شغّالة من بعيد في رصد ذبذبات الميني غوّاصة، وأنها، منذ اللحظات الأولى بعد وقوع الحادثة، كانت قد توصلت إلى أنها (الميني غوّاصة) انفجرت في أثناء نزولها إلى الأعماق.
وعندما أُعلن الخبر رسميا عن هذا الانفجار، انهالت التعازي على الضحايا الخمسة، مع تكرار التنويه بروحهم الاستكشافية العالية وهمّتهم العلمية ومناقبيتهم ... ورسائل التعاطف والدعم على أشكالها، خصوصاً "الدعم النفسي" لأهاليهم. وحشدٌ آخر من المعزّين: البيت الأبيض، وزيرا الخارجية البريطاني والباكستاني، ممثلون حكوميون من درجاتٍ وجنسياتٍ مختلفة، شخصيات ومشاهير، قنوات إخبارية، مواقع تواصلية. وتحقيقٌ في الحادث، يبدأ وقد لا ينتهي، وسوف يثير الكثير من السجالات العلمية والفلسفية.
حفظنا وجوه حادث المغامِرين في المحيط الأطلسي، ضحاياه، جنسيّاتهم، وأعمارهم، تاريخهم الشخصي، مهاراتهم، شجاعتهم وحبّهم العلم
يؤكّد الحادثان على البداهة: أن الأثرياء، أصحاب الهوية الممتازة، إلا الباكستاني، الذي تغنيه ملياراته عن بلده الأصلي، والذي يعيش على كل حال في لندن، أن الأثرياء، إذن، يحظون بمعاملة مختلفة عن تلك التي ينالها الفقراء البائسون اليائسون. وتزامنهما يضع هذا الفرق بالتعامل تحت مجهر موسّع: للأثرياء بموجبه هوية شخصية، فردية، لهم وجوه وإنجازات، وأقارب مفجوعون سيتكلمون إلى التلفزيون والراديو، وربما الأفلام الوثائقية بعد حين. سيتابع سكان الكوكب الأرضي هذا كله باللهفة نفسها التي ينتظرون بها آخر صيحات "كبار القوم". أما البائسون ركّاب سفينة الصيد وضحاياها، فلا نعرف أسماءهم ولا وجوههم ولا قصّتهم، ولا الجحيم الذي هربوا منه، ولا المصير الذي سيلاقيه الناجون منهم. ليست هذه المعلومات مثيرةً للاهتمام. الأشقياء كُثر وحوادث غرقهم أو قتلهم، وهم هاربون من بلادهم، أصبحت "مملّة" لكثرة ترْدادها، فيما مغامرات المليارديرات التي لا نعرف تماماً ماذا تقدّم للبشرية من علم جديد، هي محل احتفاء وحداد وحزن "عالمي" عارم.
وإذا حاولتَ ان تقسّم عدد الذين قضوا في أعماق المتوسّط بعدد الذين تبعثروا من بعدهم بثلاثة أيام في محيط شمال الأطلسي، سوف تصل إلى أن مقابل كل واحد من المتنعِّمين بالمال وترف "الاستكشاف"، تساوي قيمة حياته وهنائه 150 واحدا من الهاربين من بلادهم على متن سفينة الصيد تلك. كل ملياردير يساوي 150 شقيا. وهذه نسبة تزيد إذا ما حسبنا كل الغارقين في المتوسّط، منذ موجة الهروب الجماعي من بلاد المِحَن والمشقّات. وبحسبة بسيطة تكون نتيجتها: أن الملياردير الواحد يساوي آلاف الأشقياء.
وإذا ضممت إليه الملوك والملكات والأميرات والمشاهير ومصمِّمي أزيائهم، والذين يفْلقنا بهم الإعلام، بثيابهم وأعراسهم وانفصالاتهم و"الحِكَم" التي تكرّموا بها علينا في هذه المناسبة أو تلك... فإنك تبلغ الصورة بمجملها: بائسون مثل كتلة جماهيرية بلا ملامح، تمثلهم سفينة صيد مهترئة، يقابلهم أفراد استثنائيون، يصدُف أنهم سوبر أغنياء، أشبعنا بملامحهم وسيرهم ومآثرهم، تتصدّرهم مركبةٌ كأنها الفضائية، لها أيضا شخصيتها الخاصة، وسوف تكون موضع تحسين خلال السنوات العشر المقبلة، فتُخلَّد بذلك أسماء الخمسة الذين قضوا فيها، بصفتهم "طليعة" من خدَم العلم بحياته، وربما أيضا "شهداء"، تحمل أسماءهم مركبات المستقبل.