رسائل دراما رمضان ودلالاتها
المعتاد في الدراما التليفزيونية المصرية أن يكون للمسلسلات التي تُعرض خلال شهر رمضان المبارك رسائلُ ودلالاتٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ مدروسةٌ بعناية. وبعد سيطرة مؤسّسات الدولة المصرية على حركة الإنتاج الفني عموماً، والتليفزيوني خصوصاً، أصبح للإنتاج الرمضاني دلالات وإشارات تتجاوز المحتوى الدرامي إلى عناصر فنيّة أخرى. منها اختيارات الأبطال، وترتيب عرض كل مسلسل، ومواعيد بثّه، وتوزيع حجم الإنتاج على أنماط المحتوى الدرامي، اجتماعياً كان أو تاريخياً أو كوميدياً أو خيالاً علمياً، والموارد المخصّصة لكلّ منها. ويعكس ذلك كله مدى حرص الدولة على بثّ رسائل معينة أو ترويج محتوى ذي طابع معين، أو تسويق أشخاص بعينهم أو نوعية محدّدة من الممثلين وترسيمها في وضعٍ مُميّزٍ لدى المشاهد. وفي الأعوام الأخيرة، تشابهت الرسائل والمضامين واتّخذت أنماطاً متكرّرة، وبصفة خاصة الدراما التوثيقية ذات المضمون السياسي المباشر، لعل أشهرها مسلسل "الاختيار" بأجزائه الثلاثة، غير أن دراما رمضان هذا العام جاءت مختلفة إلى حد ما، خصوصاً من ناحية المحتوى. إذ غابت عنها حكايات المُترفين، وكادت تختفي مشكلات الطبقة الثريّة وقصصها، وما كان يعرف بدراما "الكومباوندات". واتجهت معظم الأعمال الدرامية إلى تجسيد أوضاع الطبقات الفقيرة ومشكلاتها والعنف المجتمعي داخلها، وخصوصاً فكرة الانتقام من الماضي مدخلاً نمطياً لحبكاتٍ دراميةٍ متشابهة في الجوهر، وفي بعض التفاصيل. فكان الانتقام مضمون سبعة مسلسلات، من بين نحو 30 عملاً درامياً في رمضان.
ومقابل التكرار المُملّ لدراما الانتقام التي لا تُعبّر إلا عن شرائح محدّدة من المجتمع المصري تحكمها غالباً علاقات ومبادئ بعيدة عن القانون، كان الجديد الحقيقي الظهور الواضح والقوي لدراما الغيبيات والخيال/ الفانتازيا في الدراما الرمضانية. فقد جسّدت بعض المسلسلات شخصيات ذات قدرات خارقة و"كرامات" من دون مبرّر. والمدهش أن المحتوى الدرامي في تلك المسلسلات يُقرّ بفكرة وجود تلك الخوارق لدى بشر عاديين ليسوا أنبياء، تُمكّنهم من "معجزاتٍ" تدخل في سياق الأحداث بشكل عادي، ومن دون أي تحفّظات أو استدراك. واللافت أن بعض تلك المسلسلات، وتحديداً "الحشّاشين" و"المدّاح"، أبرزت بوضوح معلومات وأفكاراً عن التصوّف، واستعرضت بعضاً من منطق الصوفيين. وقد حظيت هذه النوعية تحديداً من الدراما بموارد ضخمة لإنتاجها وكفاءات فنية عالية. فضلاً عن اختيار أبطالٍ ذوي شعبية وكاريزما لدى المشاهد المصري والعربي، كما لو كان ترويج تلك النزعات التصوفية هدفاً أساسياً وراء إنتاج هذه الدراما، لاستدراج المشاهدين إلى اتّباع الزهد والتخلي عن الدنيويات. وهو أمر معروف وثابت في الدول المتخلّفة والسُّلطوية، إذ تحرص حكوماتها دائماً على إبعاد الناس عن استحضار الدين في المعاملات والرجوع إليه في تقييم الواقع وإدارة الحياة اليومية، وقصر استدعائه وتداوله على العبادات، وحصر دوره وتأثيره في العلاقة بين العبد وربه.
ثمّة تغير تنظيمي وإنتاجي صاحب دراما رمضان هذا العام، وهو التخلّي نسبياً عن مسلسلات الحلقات الكثيرة التي تستغرق أيام الشهر الكريم كلها، فعدد لا بأس به من مسلسلات هذا العام اقتصر على 15 حلقة، ودخلت مسلسلاتٌ غيرُها لتغطي النصف الثاني من الشهر. وقد بدا هذا أكثر ملاءمةً واتساقاً مع طبيعة تلك المسلسلات، فبعضها قصص خيالية، بينما معظمها كوميدية خفيفة، لا يتحمّل مضمونها "ملء" 30 حلقة على مدار الشهر. وربما هناك هدف آخر من ذلك "التقطيع"، وهو زيادة عدد المسلسلات، وبالتالي المشاركين فيها، بعد أن شكا ممثلون وعاملون في الحقل الفني عموماً من قلة الأعمال وضعف الطلب عليهم، ضمن الركود العام الذي بات سمة الواقع المصري في مختلف المجالات.