رسائل الأزمة السودانية إلى النضال الديمقراطي العربي
دخلت الاشتباكات المسلحة في السودان أسبوعها الخامس، مخلّفة مأساة إنسانية جديدة تُضاف إلى سلسلة المآسي الإنسانية التي تضرب العالم العربي في العقد الأخير. بحسب تقديرات الأمم المتحدة، قُتل في النزاع المسلح الجاري في السودان أكثر من 700 مدني، وجرح الآلاف، واضطرّ أكثر من مليون شخصٍ إلى النزوح داخل السودان وخارجه، وشهدت مناطق متفرّقة منه في العقود السابقة سلسلة متجدّدة من ارتكاب جرائم جسيمة في حقّ المدنيين، وموجات واسعة من اللاجئين والنازحين. ضربت الأزمة هذه المرّة العاصمة الخرطوم، والتي صارت، بحسب تعبير الأكاديمي السوداني عبد الوهاب الأفندي على صفحات "العربي الجديد"، بمثابة "مدينة أشباح"، لا أمن فيها لأحد، طفلاً كان أو رجلاً أو امرأة. ومن غير المؤكّد بعد التنفيذ الكامل لاتفاق الهدنة المؤقت الذي وقعه الجيش وقوات الدعم السريع في جدّة أخيرا أن تفتح هذه الهدنة آفاقا جادّة لإنهاء هذا النزاع المسلح، خصوصا وأن طرفيها يرفضان تناول أيٍّ من الملفات السياسية المسبّبة لهذا النزاع، واستمرار كل طرفٍ في حشد قوته ميدانياً للاستمرار في الأعمال العسكرية. لهذه الأزمة جذورها، والتي تراكمت عبر سنوات من المسارات السياسية التي مرّ بها السودان منذ وصول عمر البشير إلى السلطة بانقلابٍ عسكريٍّ متحالفاً مع الإسلاميين عام 1989، وما لحق بنية الدولة ومؤسّساتها، والمجتمع من تحوّلاتٍ دراميةٍ خلال العقود السابقة. لكن بالنسبة لمراقب من خارج السودان هناك استنتاجاتٌ يمكن استخلاصُها في سياق تأمل هذه الأزمة ومسبّباتها ومآلاتها. تعد هذه الاستنتاجات مدخلاً لفهم السياق السياسي العام لتحوّلاتٍ سياسيةٍ كثيرة في العالم العربي خلال العقد الأخير.
يتحكّم الجيش السوداني في إمبراطورية اقتصادية تتفرّع أنشطتها في مجالات مختلفة، تراكمت منافعها عبر سنوات
أول هذه الاستنتاجات يتعلق بالتكلفة السياسية والإنسانية الباهظة التي يمكن أن يدفعها المجتمع والنظام السياسي على المدى الطويل جرّاء تضخّم الأدوار السياسية والاقتصادية للجيوش. يطرح المفكر العربي عزمي بشارة في كتابه "الجيش والسياسة .. إشكاليات نظرية ونماذج عربية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017) تحوّل كثير من الجيوش العربية مع استمرارها في الحكم في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني "من دون أن تنجز عملية بناء الأمة إلى قوةٍ قمعيةٍ، تدافع عن النظام القائم، أي عن سلطاتها وامتيازاتها". أحدث نظام البشير في السودان تغييراتٍ عميقةً في بنية المؤسسة العسكرية، وعقيدتها العسكرية، وفي موقعها وأنشطتها والمنافع والامتيازات الاقتصادية التي تحصل عليها في سياق النظام السياسي، واستحدث، في وقت ما، قوات الدعم السريع قوة عسكرية خارج الجيش النظامي لمساعدة السلطة المركزية على قمع التمرّد في إقليم دارفور، ومواجهة المعارضة المسلحة هناك. وقد أصبحت قوات الدعم السريع قوةً سياسيةً واقتصاديةً لها وزنها الداخلي والإقليمي الموازي للدولة والجيش الوطني. وقد كشف تحقيقٌ استقصائيٌّ نشرته شبكة غلوبال ويتنس عام 2020 عن الشبكة المالية الدولية السرّية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، ونشر معلوماتٍ تفصيليةٍ عن حجم المساعدات المالية التي تلقّتها من الإمارات، وتورّط قياداتها في سلسلةٍ من الأعمال التجارية غير المشروعة. ومن ناحية أخرى، يتحكّم الجيش السوداني، هو الآخر، في إمبراطورية اقتصادية تتفرّع أنشطتها في مجالات مختلفة، تراكمت منافعها عبر سنوات. تتخلّى الجيوش، مع الوقت، عن أدوارها الوطنية والمهنية، وتتحوّل إلى أداةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ معنيةٍ في استمرار وبقاء سلطة غاشمة وقامعة. وفي أوقات التحول السياسي، تدافع الجيوش بقوة عن مصالحها السياسية ومنافعها الاقتصادية، وتنتهج، في الغالب، تكتيكاتٍ سياسيةً، وأحيانا عسكرية، للالتفاف على مسارات التحوّل الديمقراطي. وعلى حد قول المبعوث الأميركي السابق في القرن الأفريقي، والمسؤول الأممي السابق، جيفري فيلتمان، فإن "التحالف التكتيكي بين البرهان وحميدتي، والذي بني على ازدراءٍ مشتركٍ لتطلعات الشعب السوداني نحو الديمقراطية انهار في خضم صراع يهدف إلى السيطرة المطلقة وصار المدنيون ضحايا هذا الصراع".
ويتعلق الاستنتاج الثاني بالنتائج الكارثية للتغيرات الحادثة في مراكز القوى والتأثير في النظامين الإقليمي العربي، والنظام الدولي. منذ رحيل عمر البشير في إبريل/ نيسان 2019، اختلفت مصالح القوى الإقليمية ممثلةً بشكل رئيسي في السعودية والإمارات تجاه السودان، والتي تباينت مواقفها بين دعم الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان أو قيادة قوات الدعم السريع. لكن جميع القوى الإقليمية اتّفقت على إضعاف الحكومة المدنية، وإفشال فرص التحوّل الديمقراطي وصولا إلى دعم انقلاب الجيش علي حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية في أكتوبر/ تشرين الأول 2021. لم يعد ممكنا في سياقنا العربي الفصل بين الأزمات السياسية الداخلية ومعترك التنافس الجيوسياسي الإقليمي وما ينتج عنه من اندلاع صراعات مسلحة بالوكالة وتجدّدها كما حدث في ليبيا واليمن، أو حسم صراعاتٍ مسلحةٍ داخليةٍ لحساب سلطة مستبدّة قائمة عبر تقديم صور مطلقة من الدعم العسكري المباشر كما جرى في سورية، أو دعم الانقلاب الكامل على مسارات التحوّل الديمقراطي، مثلما جرى في مصر وتونس. ودولياً، انعكس تعدّد مراكز القوى إقليميا ودوليا في شلل المؤسسات الدولية، وتسييسها الصارخ في الاستجابة للصراعات والأزمات السياسية والإنسانية، في ظل تزايد النفوذ الدولي للقوى الإقليمية العربية، وقوة أخرى دولية صاعدة مناوئة للغرب، مثل روسيا والصين، وقدرتها على احتواء آثار ردود الفعل الدولية تجاه الأزمات السياسية في مناطق متفرّقة، أو تحييدها لصالح تحقيق استراتيجيتها السياسية والاقتصادية.
لم يعد ممكنا في سياقنا العربي الفصل بين الأزمات السياسية الداخلية ومعترك التنافس الجيوسياسي الإقليمي وما ينتج عنه من اندلاع صراعات مسلحة بالوكالة وتجدّدها
يخصّ الاستنتاج الثالث ما يمكن اعتبارها المسؤولية التاريخية في أوقات التحوّل السياسي للنخب المدنية الفاعلة والقوى الديمقراطية في الأحزاب والمجتمع المدني للمرور الآمن بالتحوّل صوب الديمقراطية، والقدرة على الحفاظ على وحدتها التي تمكّنها من التفاوض والتفاعل مع أطراف الدولة العميقة ومؤسّساتها، خصوصا الجيوش، والقوى الإقليمية المتدخّلة التي تهدف إلى تقويض هذه التحوّلات أو السيطرة على مساراتها. كان ائتلاف القوى السياسية والمدنية في السودان، ممثلا في تحالف الحرية والتغيير، ومبادراته لإدارة المرحلة الانتقالية سياسيا وحقوقياً ودستورياً مصدرا للإلهام والتعلّم في بداية الانتقال السياسي في السودان، عقب رحيل البشير. لكن الانشقاقات في صفوف هذا التحالف سهّلت فيما بعد من مهمة القوة المناوئة للثورة داخلياً وإقليمياً في تقويض مسار الانتقال إلى الديمقراطية وإعطاء غطاءٍ لانقلاب الجيش على الحكومة المدنية، ثم تتابعت الأزمة بحدوث الشقاق وصراع السلطة الذي كان متوقّعاً بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.
يؤكّد النزاع المسلح الجاري في السودان على استنتاجاتٍ مهمةٍ أصبحت تتكرّر في العالم العربي تتعلق بالتداعيات الكارثية المحتملة التي تنتظرها المجتمعات والدول جرّاء تعاظم النفوذين، السياسي والاقتصادي، للجيوش عقودا بلا حساب، وتعاظم أدوار القوى الإقليمية العربية في تعطيل تطلّعات الشعوب في الانتقال الديمقراطي السلمي، والثمن الباهظ للانقسام والاستقطاب بين النخب السياسية المدنية في أوقات التحوّلات السياسية الكبرى.