رخصة غير شرعية

29 ابريل 2022

(الشعيبية طلال)

+ الخط -

مرّة قبل سنوات، أوصلتُ ابنتي إلى تداريبها مع فريق كرة السلّة، ونزلتُ إلى الشاطئ القريب أتمشّى، في انتظار نهاية التمرين. ولأنني لم أكن قد أفطرتُ بعد، اشتريتُ شيئاً خفيفًا، وجلستُ تحت شجرة على الكورنيش الفارغ في ذلك الصّباح الرمضاني. كنت مرتاحةً لأنّه كذلك، لأتناول بحريةٍ لقمة على الخفيف، فأنا في رخصةٍ شرعية من الصيام. بمجرّد أن وضعتُ اللقمة الأولى في فمي، وجدتُ شخصاً يقترب مني، حتى صارت الأمتار بيننا عشرةً. حدّق بي من تلك المسافة، بعدما شكّ في أنني أُخرج شيئاً من حقيبتي وأضعه في فمي. أُحرجت بحيث توقفت وانتظرت ذهابه، لكنه لم يغادر ولم يبعد نظره عني. أدرتُ له ظهري مستعينةً بالشجرة، لكنه اقترب أكثر. حينها نهضت وغادرت، ولم أتناول شيئاً إلى أن عدت إلى البيت بعد ثلاث ساعات. لأّنني لم أجد مكانا آمنا أسدّ فيه بعض رمقي.

تحكي لي إحدى الصديقات أنها كانت في مرحلة امتحانات، وكانت سعيدة بتزامنها مع موعد الدورة الشهرية. في استراحة الظهر بين الامتحانات، بحثتْ مع زميلةٍ لها عن مطعم مفتوح أمام الزبائن، أو ما يشبهه، ولم تجد إلّا ماكدونالد. تقدمَت من السيدة في مكتب الطلبات، وشرحَت وضعهما، لكنها رفضت خدمتهما. قالتا لها سنحمل طعامنا خارجاً، أو نتناوله في زاوية، فالمكان كبير وخالٍ من الزبائن. أصرّت على أنهم يخدمون الأجانب فقط في رمضان. إذا رفضت المطاعم القليلة العاملة نهار رمضان خدمة النساء، ولا يجدن مكانا آمنا في الشارع العام لتناول ما يشترينه من محلات المواد الغذائية على بؤسِه، فكيف يمارسن حياتهن الطبيعية إذا كان المجتمع يرفض منحهن ما هو حقّ ديني وصحي؟

تستحضر أجيال من النساء قيامها إلى السحور حرجاً وخجلاً من الآباء والإخوة والأبناء الذكور، وكبرت أجيالٌ منهن على تناول الطعام في السطوح أو خلف غرف مغلقة. لكن لحسن الحظ بدأت الأجيال الجديدة ترفض هذه التقاليد، وتستمتع بنومها وقت السحور ما دامت ستردّ الصيام في جميع الحالات. ولم يعدن يهربن كلما سمعن الباب يُفتح ورجل من العائلة يدخل.

مجتمعات ترفض كلّيا وجود احتمال واحد في أن يُفطر أحدهم علانية، حتى ولو لم تكن له أي علاقة بالدين خارج رمضان، إذ لا يهمّ ما يؤمن به، فالمجتمع صارمٌ في حماية المظاهر الشكلية من التديّن، أو من الدين نفسه. لذا ذهبت قوانين عربية كثيرة إلى فرض عقوبات صارمة لإرضاء المجتمع، ومصادرة حق الفرد في الاختيار. رغم أن الصيام هو العبادة الوحيدة التي يقول الله إنّها له، بينما بقية العبادات يمارسها الإنسان من أجله هو، فكيف تتعلم الأجيال الصاعدة حرية الإيمان إذا لم تكن لها القدرة على المرور بالرحلة الخاصة لكل فردٍ نحو الإيمان وفيه؟ وهل عقيدة المواطن هشّة إلى درجة الخوف عليها؟ ماذا عن جوعه وعريه وتشرّده؟

لكن هذا كله في كفّة، وإجبار النساء على عدم الإفطار خارج البيت في كفّة أخرى، إذا افترضنا أن النّساء نصف عدد ساكنة كل منطقة، فإن هذا النصف يصوم رمضان كاملاً، ثم يضيف إليه الأيام التي عليه في الدورة الشّهرية. فأين تفطر الموظفات والعاملات والطالبات في أماكن العمل أو الدراسة؟ ذكّرتني بعض قصص النساء بحادثة أخرى عشتُها عندما سافرتُ في أحد أيام الرخصة إلى الرباط. شاهدت مطعماً للوجبات السريعة فاتحاً أبوابه، وفيه مجموعة من الأسر المغربية وبعض الشابات الأفريقيات يتناولن الطعام. حينها ابتهجت، لأنّ هناك من يراعي الحالات الخاصة في المجتمع، ولا يعمّم. طلبت وجبة غذاء، وجلست أنتظر ما طلبته. اكتشفت أن النساء والرجال المغاربة في المطعم موجودون برفقة أطفالهم فقط. وأن لا واحدة منهن كانت تأكل. حين تسلمت طبقي، ارتسمت ابتسامة حرج على وجوههن من أزواجهن. لكنّني حافظت على بهجتي بأنني غير محرومةٍ من حقوقي في الحياة، وفقاً لخصائصي الفيزيولوجية الأنثوية، التي تجعل استفادة النّساء من رخصة دينية للإفطار حقّا لا ينبغي أن يُنازعه أحد، بدلاً من السّمة الذكورية المراد إلباسها للحياة الاجتماعية، خارج منطق الأشياء، والتي تجعل من النساء خلال فترة الدورة خارج خانة الصائمين والمفطرين معاً.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج