رجال في الغربال

20 فبراير 2022

(فريد بلكاهية)

+ الخط -

لا مشكلة بمرور الرئيس التركي، أردوغان، السريع من فجوات منخل التبدّلات والتحولات؛ لتنعكس المواقف التركية "قبقابًا" على "طربوش"، ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها، بل المشكلة الوحيدة في خيبات من راهنوا على أردوغان، وحرقوا سفنهم كلها كرمى عينيه، ولا أعني هنا تنظيم الإخوان المسلمين، الذي في وسعه أن يمرّ من المنخل ذاته أيضًا أسرع من الماء.

من أعنيهم نشطاء وإعلاميون وسياسيون ولاجئون عرب اختاروا تركيا ملجأ لأفكارهم وأجسادهم وأحلامهم، هربًا من استبداد أنظمتهم الحاكمة أو إيمانًا بـ"أردوغان المخلّص"، ومنهم من كان يحلم باستعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية، عبر "السلطان" الجديد الذي يرتل القرآن، ويفتتح المساجد، ويصوم رمضان.

خلب أردوغان عقول كثيرين، بخطبه المنحازة لفلسطين وحقوق شعبها، وبارودها المشتعل تضامنًا مع غزة، وهجومه المتكرّر على حكام إسرائيل، غير أن هذه الخطب النارّية كلها لم تطرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، ولم تقطع العلاقات مع إسرائيل.

وخلب الألباب أيضًا، إبّان ثورات الربيع العربي، عندما أظهر انحيازًا مفرطًا لها، واحتفى برئيس مصري أفرزته هذه الثورات، فاستقبله استقبال الفاتحين، وكان يدعو إلى تأسيس تحالفٍ إسلاميّ كبير، عماده تركيا ومصر، ثمّ صبّ جام حممه البركانية على الانقلاب العسكري في مصر، ما دعا نشطاء إعلاميين مصريين معارضين للانقلاب إلى اللوْذ به، فلجأوا إلى الأراضي التركية، واختاروها منصّات إعلامية لهم لمعارضة الانقلاب، على غرار قناة "مكمّلين" التي أزعجت الانقلابيين، ومارسوا ضغوطًا ومغريات لإغلاقها.

وخلب أردوغان قلوب نشطاء سوريين، عسكريين ومدنيين، شاركوا في الثورة السورية، فاختاروا تركيا منصّة لاحتضان رموز الثورة ولاجئيها، وكانت لهم أنشطة إعلامية وسياسية أيضًا.

وقبل مروره بــ"الغربال"، يُحسب لأردوغان أنه كان منسجمًا مع أحلام النشطاء واللاجئين السياسيين العرب، فترك لهم حرية العمل وممارسة معارضتهم إلى أقصاها، على أراضيه، سيما وأنه لم يكفّ عن شنّ خطبه اللاهبة ضدّ الإمارات، تحديدًا، التي رأى فيها عرّاب إجهاض ثورات الربيع، وكادت أن تبلغ العلاقات حدّ القطيعة التامة معها، ومع السعودية ومصر، لولا أن "الغربال" لم يمهله طويلأً.

وعلى طرفٍ مقابل، أشعر بالحنق عندما يستخدم الغربال نفسه وزير خارجية تركيا، مولود تشاووش أوغلو، لا ليمرّر ماءه العكر من خلاله هذه المرّة، بل ليغطّي فيه الشمس التي أظهرت كل شيء، ولم تعد محاولات الترتيق تنطلي على أحد، سيما في تصريحاته أخيرا، عندما "تعهد" بألا تكون أي خطوة تتخذها تركيا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. ولا أدري كيف يمكن الجمع بين نقيضين على هذا النحو، سيما وأن أوغلو يُتبِع تعهّده بكشفٍ آخر قوامه أن الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، سيزور تركيا الشهر المقبل (مارس/ آذار)، ولا يجد مخرجًا غير التسويغ بأن تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية قد يساهم في تعزيز دور بلاده في التوصل إلى حل الدولتين"، تمامًا كما حاولت الإمارات تجميل القبيح، عندما زعمت إن تطبيعها مع إسرائيل يصبّ في صالح الفلسطينيين، ويمنع إسرائيل من ضم مناطق الأغوار إلى "أراضيها".

واليوم، وبعد أن عبر "الرجال من الغربال"، وانقلبت الأحوال، أقترح على ساسة تركيا أن يكفّوا عن محاولات الترقيع الخائبة؛ فقد أدرك الفلسطينيون منذ زمن طويل، أنهم لن يخوضوا معاركهم مع هذه الكيان إلا فرادى.

ويبقى أن أشدّ ما يحزنني هو مصير أولئك النشطاء الذين تهشّمت أحلامهم تباعًا مع كل موقف تركي جديد، وأتساءل أيّ مأزقٍ يجدون أنفسهم فيه الآن، وأتخيّل كيف مرّت "المياه" المبلّلة بالمواقف التركية الجديدة من بين أرجلهم وهم يشعرون بها، لكنهم لا يستطيعون حيالها شيئًا؛ لأن المنافي أصبحت أضيق من خروم الغرابيل.

أتساءل: هل باستطاعة هؤلاء أن يعملوا بالحرية نفسها التي كانوا عليها قبل تحوّلات المواقف التركية؟ وأتخيّل، في الوقت نفسه، كيف تصبح الهجرة هجرتين؛ الأولى من الوطن والأخرى من الحلم.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.