"رابعة".. الجريمة الشاملة
لم تكن مذبحة ميدان رابعة العدوية جريمة محلية الصنع، ولا كانت، فقط، جريمةً ارتكبها باحثون في مصر عن السلطة، أو مجرد إجراء إجرامي لازم لحسم صراع، وانتزاع مكسب سياسي.
هي، قبل ذلك وبعده، فعل اقتلاع واجتثاث، وتغيير للبنية النفسية للمواطن العربي، ليس في مصر وحدها، من أجل فرض معادلاتٍ جديدة، في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع السياسي.
كانت إجراء مقصوداً في ذاته، وليس فقط وسيلةً للحكم والهيمنة، ذلك أنها كانت الجسر الذي عبرت عليه قوات مكافحة الضمير الإنساني، وقتل العقل الجمعي، أو بالحد الأدنى هدمه وتخريبه، لكي يقبل ما يأتي لاحقاً من قيم ومرتكزات ومفاهيم جديدة للوطن والوطنية والمواطنة.
هل كان يمكن تخيّل أن تتحول المقاومة العربية إلى"إرهاب" بنظر الرسميين العرب، الساعين إلى استرضاء الكيان الصهيوني، لو لم تقع مجزرة رابعة العدوية؟
هل كان أحدٌ يتصور أن العرب يعادون حركة حماس طلباً لرضا إسرائيل، لو لم تكن هناك رابعة؟
الحاصل أن الجريمة، فكراً وتنفيذاً وسلوكاً، تحولت إلى أحد مرتكزات السياسة العربية الجديدة، بحيث صارت سلاحاً مشهراً طوال الوقت للإخضاع والسيطرة، ولم تكن زلة لسان تلك التي نطق بها السعودي عبد الرحمن الراشد، مدير قناة العربية السابق، وهو يهدّد قطر بمصير معتصمي ميدان رابعة العدوية، إن لم تذعن لتهديدات دول الحصار وضغوطها.
والمعنى أن"رابعة" تنتقل من كونها جريمة دم تؤرق ما بقي حياً من الضمير الإنساني، إلى سلاح رادع وفتاك يباهي به الذين يملكونه، ولا يجدون غضاضة في الاعتراف بحيازته والتلويح به.
وعلى ذلك، وبعد أربع سنوات من المذبحة، يتضح أن المقصود لم يكن فقط الإجهاز على الخصم السياسي، وإنهاء وجوده، وإنما القضاء على "الإنسان"، من خلال محو قدرته على التفكير الأخلاقي وإيمانه بقيم مثل العدل والخير والحق والجمال، أو بالأحرى فرض أنماط فاسدة من هذه القيم وزرعها فيه، بالإلحاح المتواصل عليها، والتخويف المستمر من التمسّك باعتناق عكسها، ليسود، في نهاية المطاف، نموذج المواطن الوغد الذي يهتف للقوي ويصفّق للفائز، ويلعب أدواراً إضافية في انتهاك الضحية، طلباً للنجاة، وقرباناً للباطش المسيطر.
كانت "رابعة" الموقف التي استسلم فيه الجميع لفكرة الحياة من دون ضمير، ولو لوقت مستقطع، بعضهم خوفاً، وبعضهم طمعاً، وجلهم من باب الانتهازية، وصاروا قناصة، مثل المجموعات التي تمركزت أعلى البنايات المطلة على الاعتصام، وصبت رصاصها على النساء والأطفال والرجال والشيوخ، لينتهي الأمر بأن الدماء طالت الكل الذي ضغط على الزناد، وحرّض بالقلم، والذي قصف بالميكروفون، والذي صمت، رعباً، والذي رقص انتشاءً، والذي صفّق إيثاراً للسلامة، فتحول الوطن إلى بحيرة دماء، لم تجف حتى الآن.
وتبقى أفدح الخسائر هي الهبوط الحاد في قيمة الإنسان العربي، محلياً وخارجياً، نتيجةً منطقية لحالة من التصحّر الإنساني والجفاف القيمي. وكما قلت سابقاً، كان المستهدف القضاء على ما وصفته بـ "إنسان ما قبل الفضّ" وإفساح المجال لكائناتٍ بشرية، كتبت نص الاستقالة من إنسانيتها، بدم الذين حرّضت على التخلص منهم، وبات أقصى طموحها البقاء على قيد الحياة، في مراعي القتل والظلم الممتدة، بطول الخرائط وعرضها.
نعم، كان الهدف تغيير خريطة الإنسان، طريقاً مضموناً لتغيير خرائط الأوطان، بالبيع والمقايضة والتأجير والارتهان، غير أن ما يصيبك بالأسى هذه الأصوات التي تريد منك الإذعان للسائد، بزعم الواقعية، والإقرار بأمر واقع، كل موازين القوى فيه لصالح القتلة والمجرمين، تلك النغمة التي يهرف بها من كنا نظن أن العطب الإنساني لم يصل إليهم بعد.
وتدهشك في هؤلاء تلك الرغبة الكاسحة في التعايش مع القبح، بحجّة أنك لا تملك أدوات صناعة الجمال، والاستسلام للفساد، بزعم عدم القدرة على مقاومته، والتأقلم مع الاستبداد، وملاطفته وملاعبته سياسياً، بانتخابات هو صانعها ومديرها، بذريعة أن آليات التغيير الجذري غير متاحة، ثم يبتزونك بالسؤال: ما العمل، ما البديل، سوى الإذعان لقوة الواقع الكريه؟
كان من الممكن أن يكون لهذا السؤال الابتزازي جدارة، لو أن تجربة السنوات الماضية أثبتت أن التنازلات تفيد، والتراجعات والمواءمات تثمر.
قل لهم إن الحق هو البديل، والعدل هو الاختيار.
البديل أن تتمسّك بأن تعيش إنساناً.