رؤوس الآخرين.. يُسْمَحُ بجَزِّها

18 أكتوبر 2015
+ الخط -

أكثر كِتاب أثّر فيّ، خلال حياتي، هو مسرحية "رؤوس الآخرين"، للأديب الفرنسي مارسيل إيمي، التي ترجمها حسيب كيالي، وصدرت سنة 1992. لم تؤثر فيّ الصياغة المسرحية البارعة لإيمي، وإنما الفكرة؛ فكرة أن يَسْهُل عليك التضحيةُ بغيرك من الناس، طالما أن رأسَك سيبقى سالماً.

تشكل هذه المعادلة، في الحقيقة، الأساس المتين لقيام الدكتاتوريات في العالم، عبر العصور، فالدكتاتور المجرم، بعدما ينتهي من قتل ضحاياه، يمارسُ حياته اليومية من أكل وشرب ونزهات وسُكْر وعربدة، غير آبه بحسرات ذوي الضحايا الذين جُزَّت أعناقهم.

أقول هذا الكلام بمناسبة رسالة وجّهها إليَّ صديق، تتضمن التذكير بمقالات نشرها غازي أبو عقل في أوائل التسعينات، يثبتُ فيها أن إحراق اليهود في الأفران أكذوبة اخترعها اليهودُ، ليصنعوا منها مَظْلَمة تاريخية، ويبتزوا بها العالَمَ في ما تبقى من الدهر، ويعاتبني لأنني أوردتُ المعلومة في زاويتي (بوتين يقرقع متة)، من دون أن أنفيَها.

كتبتُ لصديقي أنني أشرتُ، في الزاوية المذكورة، بوضوح، إلى أن اليهودية السياسية (الصهيونية) ‏من أكثر الحركات خبثاً وإجراماً في العالم، لكن المَبْحَثَ الذي أهتمُّ به هو، بالضبط، رؤوسُ الآخرين؛ واستباحتها من الطغاة. ليس هذا وحسب، وإنما يؤلمني أكثر أن أجدَ مَن يدافع عن هذا الإجرام، ويسوّغه، ويعتبره أمراً مقبولاً، بل ويخطو بعضُهم خطوتين إلى الأمام، معلنينَ، بالفم الملآن، أنه أمر ضروري؛ يستحيل أن تستقيم أمور البلاد والعباد من دونه.

كان الاستبدادُ البعثي في بلاد الشام يتألف من فَرْدَتَين، حافظ الأسد وصدام حسين، وكان رجال المخابرات في البلدين يُمِيتون أبناءَ الشعب في المعتقلات، تحت التعذيب، ويصادرون الأملاك، ويعتدون على الأعراض، بينما تداومُ الكاميرات التلفزيونية، آناء الليل وأطراف النهار، على رصد تحركات القائد، وهو يتفقد القوات المسلحة، ويوجّه الحكومة بمضاعفة الإنتاج، وحماية حقوق المواطنين، وحريتهم، وكرامتهم. وكان صدام يزيدنا في القصيد بيتين، إذ يذهب، يومياً، ومعه الكاميرا، لتفقد الرعية، لا يترك شيخاً كبيراً إلا ويتصور معه، يحنو على الأطفال، ويجالس العسكر في خنادقهم، وإذا شاهد امرأة عجوزاً لا يمنعه من تقبيل يدها غيرُ ضرورة أن تَبقى هيبتُه قوية، فَبِها، أعني الهيبة، ينكسر ظهر الإمبريالية والصهيونية، وتتحطم المؤامرات.

حينما كنتُ أختلف بالرأي مع بعض الأصدقاء السوريين الذين يحبون صدام حسين، وأقول لهم إنه دموي، مستبد، كانوا يدافعون عن وجهة نظرهم بمعلومة بالغة الغرابة، هي أن الشعب العراقي لا يُحْكَمُ إلا بالقوة، ويضربون لي، مثلاً، بالقائد التاريخي الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يجيدُ في حديثه السجع والتقفية، بدليل أنه خاطبهم بقوله: يا أهل العراق، يا أهل الكذب والنفاق. وهو، لله دره، صاحب العبارة الشهيرة (إني أرى رؤوساً قد أينعتْ وحان قطافها)، فيذكّرني هذا المثالُ، حالاً، بفكرة مارسيل إيمي عن "رؤوس الآخرين". إذ ما هو الدستور، أو القانون، أو النظام، أو المنطق الذي يمنعه من جزّها طالما أنها يانعة، دانية؟

لم يأتِ في النص القرآني، أو في السنّة النبوية، أو في الاجتهاد، أو في القياس، أن يكون أحدُ ولاة الدولة الإسلامية مقدساً، لا يجوز لأحد انتقاده، لكنني، حينما انتقدتُ استهتارَ الحجاج بكرامة رعيته، واتهامَه إيّاهم بالكذب والنفاق، وتوعّدَهُ إياهم بقطع رؤوسهم، مصمص بعض أصدقائي الشفاه، وقالوا لي: حرام عليك، إنه والي المسلمين. فقلت لهم: لن أخرج، في حواري معكم، عن الإسلام نفسه، ففي فترة الحجاج نفسها، كان عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة المنورة، وهو الذي نصح الخليفة بمنع عماله من قتل الناس، واقترح عليه أن يجعل هذه العملية معقدةً، لا تتم إلا بموافقته الشخصية، وقال له: ليس بعد الشرك بالله إثمٌ أعظم من الدم.

فأي الواليين أحسن؟  

    

   

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...