ذلك الفلسطيني
أول تماسّ لي مع الفلسطينيين كان في حديث العائلة، حين كنت طفلاً، عن نوع ربطة الرأس النسائية التي بدأت ترتديها إحدى الخالات، فعلّقت الجدّة بأنها ربطة فلسطينية، في نوع من الاحتجاج المبطّن على تخلّي الخالة عن غطاء الرأس الشعبي الشائع في العوائل الجنوبية العراقية، والذي يسمّى "الشيلة".
بعد سنوات، حين دقّقت في هذه الصورة الأولى عرفتُ أنها ترسخّت في التداول العام بسبب صورة النساء من اللاجئين الفلسطينيين بعد حرب 1967، والذين جاؤوا إلى العراق في وضع إنساني مزرٍ، وتوزّعوا على مدن عراقية شتّى.
لاحقاً، ومن حكايات العائلة، عرفتُ أن جدّيّ، لأبي وأمي، قاتلا في حربي 1948 و1967، مجنّدين في فصيلٍ كان يسمّى "الشرطة السيّارة"، وهي تشبه قوات الكوماندوز اليوم. وجلب جدّي، والد أمي، بعض المقتنيات معه، منها صندوق عتاد إسرائيلي خشبي، وعصا تبختُر، ظلت ذكرى من مشاركته في تلك الحروب.
وخارج التداول الإعلامي الرسمي عن القضية الفلسطينية في الأخبار والنشاط السياسي، كان الفلسطينيون موجودين دائماً، ويواجهونني شخصياً في أكثر من محطّة، لعل منها أن أكثر أديب عربي أثارتني تجربته، بسبب تنوّعها، وتشابهها مع مساراتي الخاصة في جوانب عدّة، هو جبرا إبراهيم جبرا، الفلسطيني العراقي. وكم كانت تجربة ثمينة حين كُلفت خلال هذا العام، بكتابة مقدّمة للطبعة الإنكليزية عن دار بنغوين راندوم هاوس، لروايته "الغرف الأخرى".
كنتُ أتصفّح في الأدب العربي الحديث، في بدايات تجربتي، وكانت الصدمة الجمالية الأبرز عثوري على أعمال غسّان كنفاني الكاملة. ويمكن القول بثقة إن الحجر الأساسي في ذائقتي الأدبية وتصوّري عن الأدب الروائي تحديداً حدّده بشكل حاسم غسّان كنفاني، وكانت تجربة مثيرة لي أن أقرأ ورقة عنه في مؤتمر أدبي فرنسي، ودعوة لقراءة روايته العظيمة "رجال في الشمس".
كان الفلسطينيون/ العراقيون يرافقوني في محطّات عديدة، وهنا أتذكر أن أول مقالة نُشرت وتعاملت مع تجربتي الأدبية بجديّة كانت بقلم فلسطيني/ عراقي هو الناقد والشاعر الراحل خالد علي مصطفى، في منتصف تسعينيات القرن الماضي. استلهمت من تجاربهم أحداثاً وحكايات في أعمالي الأدبية، ومنها قصّة "الرومانسي" في كتابي "الوجه العاري داخل الحلم". وفيها، وبالاحالة إلى الواقع، هناك كشف عن تحوّلات صورة الفلسطيني داخل المجتمع العراقي، فنحن نشأنا متشبّعين بالقصة الدرامية الفلسطينية والحقّ المغتصب في الأرض والوجود. ولكن في المجتمع كان هناك من ينظر إلى بعض فصائل الفلسطينيين المقيمين في العراق أذرعا للنظام البعثي الديكتاتوري. ولهذا تعرّض الفلسطينيون/ العراقيون إلى عمليات تهجير بعد إبريل/ نيسان 2003، ودخلوا في طوْر مأساوي جديد.
أيضاً، لم يرتح كثيرون لتبنّي التيارات الإسلامية التي حكمت ما بعد نظام صدّام السردية النضالية ذاتها، فهي تُفهم داخل العراق مجرد أداة، ووسيلة أيديولوجية لفرض السطوة داخل المجتمع العراقي، أكثر من كونها ذات أثر حقيقي على القضية الفلسطينية ذاتها.
ولكن، في النقاش الحرّ، ما وراء التأثيرات السياسية واستعمالاتها، وما بعد تفكيك السرديات السياسية، تنتهي القراءة دائماً إلى الواقع الإنساني، وصعوبة أن لا يتعاطف المراقب مع معاناة شعبٍ حرم من حقّه بالحرية والوجود في دولة مستقلة كلّ هذه السنوات، في وضعٍ لا يمكن مقارنته مع أي وضعٍ لمجموعة بشرية أخرى في العالم.
يراقب عراقيون كثيرون اليوم ما يجري من أحداث في الأراضي الفلسطينية، بحماسة كبيرة، خارج حسابات الولاء السياسي والتوجّه الإيديولوجي، وعيونهم لا تخطئ السبب الأساسي لهذه الحرب الجديدة؛ فهو الحقّ الغائب والتواطؤ الدولي في هذا التغييب لحقّ شعب في الحياة والحرية.
إنها أحداثٌ لا تجري بعيداً، وقد تجد من يجلس بجوارك في المقهى ويتابع الأخبار على التلفزيون في بغداد من العراقيين/ الفلسطينيين، وقد لا تنتبه، كما سردتُ في تفاصيل تجربتي الشخصية أعلاه، أن الفلسطيني مكوّنٌ أصيلٌ وعميقٌ في شخصيّتك أصلاً.