ذلك الحزب وتلك الجبهة: له ما له ولها ما لها

23 يناير 2023

(عبد عابدي)

+ الخط -

بعد ما لا يقل عن 45 سنة على ولادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (الجبهة) من رحم الحزب الشيوعي الإسرائيلي (الحزب) وصلبه، وبعد خوض جولاتٍ انتخابية متتالية، للكنيست والسلطات المحلية، باسم الجبهة منذ ولادتها، فإن السؤال التالي "يدقّ جدران الخزّان" (كما يقال): لماذا لا يتم الاندماج أو الانصهار الكامل بينهما؟ ولماذا يستمرّ الفصل بين هيئات وقيادات كل منهما؟ وكيف يتم تبرير، أو الدفاع عن هذا الفصل بعد علاقةٍ حميمةٍ وأكثر لما يقارب نصف قرن؟ وهل تعرف الكوادر الشابّة حقًا تلك الحدود الفاصلة  بينهما، ناهيك عن الأنصار والناخبين؟ أطرح هذه الخلية النحلية من الأسئلة الآن عن علاقة الاتصال والانفصال بينهما، وتحديدًا حول استمرار وصاية الحزب على الجبهة، وذلك من دون أي تقييم للأداء، فمسالة تقييم الأداء عبر السنين مستقلةٌ عن الأسئلة التي أثيرت بشأن حول طبيعة العلاقة بينهما، أو هكذا أعتقد.
وليكن واضحًا منذ البداية: ما أعتقده، وأنادي بمسحوق الهمس به، ليس إعادة ترتيب العلاقة بين الحزب والجبهة، أو التعريف بها، وإنما الدمج الكامل بينهما، وانصهار الواحد منهما بالآخر. هذا يفترض، من بين أمور أخرى، أن الازدواجيه التنظيمية الحالية لم تعد مقنعةً أو مبرّرة، وربما لم تكن مقنعةً أو مبرّرةً منذ سنين كثيرة. أضف إلى ذلك، أن انصهار الحزب في الجبهة لا يفقد قياداته وكوادره الرئيسة مكانتهم الخاصة أو مواقعهم المتقدّمة. ومن جهة أخرى، لا أرى أية قيمة مضافة لاستمرار الازدواجية بين حزب منفصل تنظيميًا عن جبهة يقول إنه عصبها وعمودها الفقري. باختصار، ربما قد حان الأوان لإحالة أحدهما على التقاعد!

الجبهة إطار سياسي أوسع يقوم على قاعدة أيديولوجية رقيقة وليّنة، خلافًا للحزب الذي قام من قبل على أيديولوجية سميكة وصلبة

والأوْلى أن يُحال الحزب (غير المنتخب) على التقاعد بعد إتمام عملية اندماجه وانصهاره في الجبهة (المنتخبة) التي ولّدها في أعقاب أحداث يوم الأرض عام 1976، وخاضت الانتخابات المحلية والبرلمانية المتتالية، بدلًا عنه منذ عام 1977، فالجبهة إطار سياسي أوسع يقوم على قاعدة أيديولوجية رقيقة وليّنة، وذلك خلافًا للحزب الذي قام من قبل على أيديولوجية سميكة وصلبة، أصابها ما أصابها من التصدّع بعد انهيارالاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت، كالحزب، تدور في فلكه. وإذا أحيل الحزب على التقاعد، فعلى الأرجح أن تتعزّز نزعة الجبهة للتحالف مع شركاء آخرين، وربما تتّسع رقعة جذبها أيضًا لقوى وشخصيات سياسية أخرى كانت نافرةً في السابق، بسبب الصلابة الأيديولوجية للحزب، أو لأسباب أخرى. فهناك، مثلًا، من كان نافرًا بسبب هشاشة التزام الحزب سابقًا بأسس الديمقراطية الحديثة ومعاييرها، أو بسبب عدم التناسب المفرط في الماضي غير البعيد بين أعداد ناخبي الحزب من المواطنين اليهود وتمثيلهم في الأطر القيادية العليا، يشمل المكتب السياسي وعضوية الكنيست. وهناك، إضافة، من كان نافرًا بسبب دلالة كلمة "الإسرائيلي" التي تذيّل اسم الحزب.
أدرك جيدًا أن الإبقاء على الازدواجية التنظيمية الحالية أو إحداث الدمج الذي أهمس به بين الحزب والجبهة هو قرار يتّخذه قادة الحزب وكوادره الرئيسة والفاعلة حصريًا، فهم أصحاب الشأن وأصحاب القول، وهم الأوصياء على الإرث. وليس إسداء المشورة لهم أو التدخّل في شؤونهم هو ما يدفعني إلى طرح الأفكار أعلاه. ما يدفعني إلى ذلك هو اعتبارات من نوع آخر مختلف، في مقدّمتها، تيسير بناء تحالف وطني، حاوٍ وواسع، يكون الحاضنة السياسية الوطنية الجامعة لفلسطينيي الداخل، ويكون جاذبًا، في الوقت نفسه، لليهود الإسرائيليين الرافضين الصهيونية فكرًا ومشروعًا. غنيٌّ عن القول، في هذا الصدد، إن مثل هذا التحالف لا تتيسر ولادته إذا ظلّ الحزب هو الآمر والناهي للجبهة. أمًا التحالف المقصود والمنشود بناؤه، والذي يضم الجبهة والشركاء الآخرين، فيقوم على برنامج عمل سياسي، يقوم على محاور نضال تقترن بأهداف محدّدة، لا يتعذر الإجماع عليها، في مقدمتها التالية: 

من يبقى خارج التحالف الواسع، أو يتم استثناؤهم منه، هم الجهويون واللاديمقراطيون، والمتذيلون للأحزاب الصهيونية

أولا: النضال من أجل حقوق المواطنة الديمقراطية المتساوية والكاملة في الدولة، بما يتطلبه ذلك من تقويض أسس الفوقية اليهودية وتجلياتها. ثانيا: النضال من أجل حماية (وصيانة) الهوية الفلسطينية المميزة للإنسان والمكان في الدولة، بما يتطلّبه ذلك من حكم ذاتي ثقافي وأكثر. ثالثًا: النضال من أجل تعزيز الالتزام بدولة الرفاه، وبالتوزيع وإعادة التوزيع المنصف للثروة والموارد والفرص. رابعًا: النضال من أجل معالجة القضايا العالقة والمستجدة لفلسطينيي الداخل، خصوصا الملحة والحارقة منها. خامسًا: النضال من أجل حل منصف للصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأوسع يقوم على مبدأ الحقوق الوطنية المتساوية بين الإسرائيليين اليهود والفلسطينيين العرب جميعًا. ... هذا مع التأكيد بأن ترتيب هذه النقاط لا يعكس الأولوية، سواء الزمنية أو المنطقية.
مثاليًا، تحالف وطني واسع كالذي وصفت (والجبهة، بالطبع، مركّب رئيس أو ركن أساس فيه) يمكنه استقطاب (واستيعاب) مختلف الحركات والقوى السياسية، العلمانية والوطنية، الفاعلة في أوساط  فلسطينيي الداخل، خصوصا إذا كانت ديمقراطية وفلسطينية الهوية والهوى. كما يمكنه قيادة نضالات ميدانية أكثر فعالية، وتوليد قوائم انتخابية أكثر جذْبًا لأصوات الناخبين سواء للكنيست أو للسلطات المحلية. أما من يبقى خارج مثل هذا التحالف الحاوي والواسع، أو يتم استثناؤهم منه، فهم أساسًا الجهويون واللاديمقراطيون من طرف، والمتذيلون للأحزاب الصهيونية من الطرف الآخر.  

علمتنا التجربة أن هناك أحزابًا تولد وأخرى تموت، وأن هناك أحزابًا تغير تسمياتها وأهدافها وطرائق عملها

وللإجمال أقول: ليست الأحزاب السياسية أهدافًا بذاتها؛ هي وسائل وأدوات لتنظيم المجتمع وتعبئته، وقيادة النضال لتحقيق أهداف محدّدة. وهي، بالتالي، ليست عصيةً على الإصلاح أو التغيير أو التلاشي. فقد علمتنا التجربة أن هناك أحزابًا تولد وأخرى تموت، وأن هناك أحزابًا تغير تسمياتها وأهدافها وطرائق عملها، وأن هناك أحزابًا تندمج في أحزاب أخرى، وهكذا. يحدُث هذا التغيير أو ذاك، لأن الواقع المعيش في حالة جريان وتغيّر لا يتوقفان. وكما تتغيّر أحوال الأحزاب، تتغير كذلك الردود الواجبة على التحدّيات، المتغيرة بدورها. فلا تجزع إذا قيل لك، همسًا أو بصوت عالٍ، لقد حان الأوان لهذا الحزب أو ذاك أن يترجّل.
وأخيرًا، بما أن التحدّيات التي تواجه فلسطينيي الداخل هائلة، ويزداد هولها مع الزمن ومع تعاقب الحكومات في إسرائيل، وجديدها أخيرا حكومة يمينية متطرّفة وعلى عتبات الفاشية. تلحّ الحاجة الآن إلى الردود المتناسبة. والردود المتناسبة تتطلب بدورها تحالفات وطنية، واسعة، وطرائق عمل ونضال مختلفة. وإذا تطلّب صنع مثل هذه التحالفات إحالة هذا الحزب أو ذاك على التقاعد، فليكن. هذا مع التأكيد بأن الإحالة على التقاعد، للحزب كما للفرد، لا تقلّل شيئًا من أهمية الخدمة التي قدمها أو أهمية الدور الذي قام به عبر السنين.

560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
سعيد زيداني

كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.

سعيد زيداني