ذكرى الثورة السورية والحاجة إلى الحوار والحلّ
موجعةُ ذكرى الثورة على قلوب السوريين؛ فقد كانت الأمل العظيم بطيِّ 50 عاماً من القهر. النظام الذي أذلّهم عقوداً، ولم يقبل الحوار معهم حينها، كذلك لم يقبل في الأشهر الأولى للثورة، بل وأعاد إذلالهم، فظلَّت السلطة له، وتمَّ الأمر عبر إيران ومليشياتها وروسيا في 2015. رغم ذلك، لم يعُد النظام القديم هو ذاته؛ فقد صار أداة بيد الدولتين سابقتي الذكر. المعارضة السورية بدورها، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وحكومته المؤقتة، واللجنة التفاوضية ووفود لقاء أستانة أو اللجنة الدستورية، صارت تابعة لهذه الدولة أو تلك، ولا صلة لها بآمال وهموم من ثاروا من السوريين في 2011.
منذ تشكّل المجلس الوطني في 2011 وهيئة التنسيق الوطنية، ولاحقاً الائتلاف الوطني، لم تهتم المعارضة، كما النظام، بالحوار الجاد بين أطرافها للوصول إلى توافقاتٍ سياسية وطنية، تُوقِف التدهور الكبير في تشتتها وانحرافات الثورة عن قضاياها الأساسية في تحقيق النظام الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والنهوض الاقتصادي؛ في مؤتمر القاهرة عام 2012، وفي ندوة الدوحة 2022، تم الوصول إلى توافقات مهمة، ولكنها هُمّشت فوراً. يكمن سبب الإخفاق السابق في عدم احترام أطراف المعارضات بعضها بعضا وانعدام الثقة فيما بينها، ولا تمتلك القدرة على إدارة الاختلاف، وتتبنّى التكتيك السياسي المتغيّر دائماً، وترفض التفكير الاستراتيجي والالتزام ببرامجه شبه الثابتة، وتتّصف بعض شخصياتها ببراغماتية رخيصة تبيع الثورة ذاتها لصالح حساباتٍ ضيقة، كالاستمرار بقيادة المعارضة، ولو تَركت معظم القيادات والجماعات السياسية، وهو حال الائتلاف، المجالس السياسية الرسمية، وهي سهلة الوقوع في مصيدة الفساد المالي والتبعية للخارج.
يكتب مروان قبلان في مقاله "سورية في العام 13"، في "العربي الجديد" (20/3/2024) أن "اللحظة المشتركة لن تدوم"، حيث "بدأ يتبلور موقف مشترك، أخيراً، بين السوريين من أجل إنقاذ وطنٍ بات مهدّداً بالتفكك والضياع" والأمر ذاته، يأتي عليه علي العبد الله في مقالٍ في "العربي الجديد" (20/3/2024) بعنوان "الثورة السورية وضرورة تجديد البنيان"، فيؤكّد ضرورة الحاجة إلى "قيادة سياسية واعية وموحّدة وخطّة مدروسة وقابلة للتنفيذ". يتفق الكاتبان على ضرورة التقاط اللحظة الجديدة، لحظة التظاهرات، ورغبة السوريين في بناء وطن جديد. ربما يكون مصدر رؤيتهما هذه الخوف من استمرار التدهور العام في سورية، والذي تتكرّس فيه مختلف أشكال الانقسامات المجتمعية الهوياتية، والتدخّل الخارجي، والخوف من أن تصبح الحدود المرسومة بين "السوريات الأربع" حدوداً نهائية. وبالتالي، تظهر سورية متعدّدة بالفعل، وشعوباً كما قال عنها مرّة الرئيس الروسي، بوتين، وليست مصطنعة وضد إرادة أهلها، الساعين إلى دولة حرّة ومتحرّرة.
لم تهتم المعارضة، كما النظام، بالحوار الجاد بين أطرافها للوصول إلى توافقاتٍ سياسية وطنية
استنتاجات مروان قبلان وعلي العبد الله، أعلاه، مرتبطةٌ باستمرار انتفاضة السويداء أكثر من سبعة أشهر، وشمول المظاهرات المناهضة لهيئة تحرير الشام مختلف بلدات إدلب وبعض أرياف حلب، ووصول النظام إلى حالةٍ مستنقعيةٍ من الأزمات، وعدم قدرته على حلّ أيٍّ منها، لا الاقتصادية ولا الاجتماعية. وبالتأكيد، يرفض أيِّ حلٍّ سياسي، داخلي، أو وفقاً للقرارات الدولية، المتعلّقة بالانتقال السياسي الديموقراطي في سورية ومنذ 2011.
هناك حالياً ضرورة للحوار بين السوريين، مثقفين، وسياسيين بصفة خاصة، وطبعاً بين مختلف السوريين، وهناك ضرورة للوصول إلى الحل السياسي، والتخلّص نهائياً من فكرة أن الخارج سيقدّم للسوريين حلّاً ما. وتشير مقالة علي العبد الله بذكاء إلى أن "البيان الرباعي الأميركي البريطاني الألماني الفرنسي... مرتبط بالصراع مع روسيا وإيران أكثر من ارتباطه بدعم الحراك السوري"، وهو بيان أخير بمناسبة ذكرى الثورة. وفي الإطار ذاته، يؤكد قبلان ضرورة أن تبتعد " القوى والشخصيات السياسية السورية المستقلّة عن أيّ نفوذٍ أجنبي".
عكس هذا التوجّه، المستند إلى التظاهرات أخيراً، وإلى أزمات في السوريات الأربع، هناك من يؤكّد أن تلك السوريات أصبحت راسخة، ولا بد من تطوير كل منها وفقاً لتبعيتها لهذه الدولة أو تلك. تتجاهل هذه الرؤية أو هي قاصرة عن أن تفهم أن لا مصلحة لتلك الدول في تنمية هذه السوريات بأي حال؛ فأحوال دويلة قوات سورية الديمقراطية (قسد) شبيهة بدويلة النظام، وكذلك الحال لدى هيئة تحرير الشام والفصائل: الأسعار متقاربة، وغياب فرص العمل، والأجوار متدنّية، وفساد الحكومات الأربع فيها، والسلطة فيها مافيوية، وفاحشة الثراء، والاستبداد هو شكل السلطة. وبالتالي، لم ولن تشهد تلك السوريات أيّة مشاريع استثمارية حقيقية من الدول الداعمة لها.
أصبح السوريون الواقعون تحت سيطرة النظام يفضّلون الهجرة والالتحاق بالملايين التي غادرت سورية، وبالتالي لم تعد لديه أيّة حاضنة اجتماعية
هناك قرارات دولية عديدة، كبيان جنيف 2012، وقرار مجلس الأمن 2254، وهناك عدة قوانين أميركية مناهضة لأيّة علاقة مع النظام، وهناك قراراتٌ أوروبية كثيرة تمنع تعويمه، ولكن أميركا وأوروبا لا تريدان إسقاطه وتفضّلان إصلاحه والتدرّج في تغييره. المسارات الروسية، لقاء أستانة وسوتشي ولقاءات الرئيسين الروسي بوتين والتركي أردوغان، تمنع بدورها تحقيق تلك القرارات. وبالتالي، ليست هناك أيّة ضغوط دولية للتغيير في سورية، والسنوات الثلاثة عشر الماضية أكثر من برهان على ذلك.
القضية المركزية الراهنة أن النظام الذي توهم، ومعه كثيرون من جمهور الثورة، وليس الموالاة فقط، أنّه انتصر، لم يستطع فعلاً تحقيق الأمن في محافظة درعا أو ريف حمص الشمالي وفي بقية المحافظات، وخرجت السويداء بانتفاضة شعبية وتستمر بتقليص وجود مؤسّسات السلطة فيها. وأصبح السوريون الواقعون تحت سيطرته يفضّلون الهجرة، والالتحاق بالملايين التي غادرت سورية، وبالتالي، لم تعد لديه أيّة حاضنة اجتماعية.
تفكّك هذه الحاضنة بفعل سياسيات النظام الاستعدائية لها، وغياب المعارضة المرتبطة بأهداف الثورة، يستدعي دوراً مركزياً للقوى والشخصيات السورية الفاعلة، وبعيداً عن "منطق الانتقام، والإقصاء، وأوهام القوة، والنصر" كما يشير قبلان، وكما تكتب شخصياتٌ سورية كثيرة، وهو ما تنتهجه انتفاضة السويداء في ممارساتها منذ سبعة أشهر. وبالتالي، وللاستفادة من القرارات الدولية، ومن حالة الاستنقاع التي صارت إليها الأوضاع والعزلة التي ازدادت بين "الشعوب" والسلطات، ومن المناخ الثوري الجديد، يجب إطلاق الحوار بين السوريين، والوصول إلى توافقاتٍ سياسيةٍ عامة وجامعة، وتسمح بالوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ، يُنهي المأساة السورية المفتوحة. وبغياب ذلك، ستتجه سورية نحو أسوأ السيناريوهات: المزيد من التعفّن، تكريس الانقسامات وربما التقسيم، اندلاع الحروب والاقتتال الهوياتي، والمزيد من الإفقار والإذلال والتبعية والهجرة.