دولة مدنية بضمان جنرال إليكتريك
أنت بصدد لغة تليق بالسماسرة والمخلصين الجمركيين، يهبط فيها مقام رأس الدولة إلى قاع المقاولات والمفاوضات التجارية، وتقاس فيها السيادة الوطنية بسعر السوق، وتتوارى الأعراف الدبلوماسية المحترمة، لصالح قيم "الفهلوة" والشطارة.
هنا، تسقط كل الشعارات والأصباغ، وتتهاوى كل المقولات عن الدولة المدنية، لتحل مكانها الشركة الربحية، والمصلحة التجارية، وتتطاير الأيمان المغلظة على طريقة التجار في سوق الجملة "عشان خاطر ربنا راعينا شوية في السعر"، فيرد ممثل جنرال إليكتريك: حلال عليك يا شقيق، فتضج القاعة بتصفيق ماجن، على هذه المهارة في أعمال التخليص.
لم يثبت أن "جنرال إلكتريك" تتبع حزب النور، أو أنها تدار بمنطق محلات "التوحيد والنور"، حتى ينهار ممثلوها، بمجرد أن يستحلفهم الزبون بالله، فيخفضوا السعر و يقصروا أجل التنفيذ، غير أن السياق الذي يمرح فيه الجنرال، والبراح الذي يرمح فيه، يؤشر إلى أن الرجل الذي نفذ انقلاباً دموياً، بزعم أنه ينقذ مصر من التحول إلى دولة دينية، تخاصم الحداثة وقيم العلمانية، يسلك في مفاوضاته مع الشركات والأفراد وكأنه أمير جماعة، أو شيخ طائفة من التجار والصناع، فينجز أصعب الصفقات على طريقة دراما شيوخ شركات توظيف الأموال، حين كانت العمليات تنجز بكيس من التمر وعبوة من البخور، وكثير من الدعاء بالبركة.
هي مرحلة تدار فيها مصر بالمباخر والصاجات والدفوف، تتحول معها إلى "حلقة زار" وحفلة هلوسة قومية، على إيقاعات محمد منير، المنتقل بقوة من نجم للأغنية الطليعية الحديثة، في سبعينيات القرن الماضي، إلى مطرب نموذجي للدولة الأمنية العسكرية، الغارقة في مستنقعات التخلف والرجعية، يغني ثملاً، قافزاً من حالة "مصر قريبة" إلى حالة "مصر غريبة" عن نفسها وتاريخها وجغرافياها.
مع بداية تحويل مجرى نهر الدجل والخرافة، بمناسبة إطلاق مشروعي "الكفتة" و"الحفر على الناشف" قلت في هذا المكان "تجدهم ناشطين في استنساخ ستينيات عبد الناصر بركاكة، يستخدمون الأغنيات الوطنية في غير مواضعها، ويتصنعون "ناصراً" صغيراً، من دون وعي بأن علم الهندسة الوراثية لم يأخذ طريقه إلى عالم السياسة بعد، وبالتالي، لا يصلح ما كتب وتحول لأغنيات في ما بعد عن "مصر القاهر والظافر" للاستعمال في مرحلة "مصر البيضة والحجر".
كانت تنمية عبد الناصر تقوم على مشروع للتحرر والاستقلال الوطني، فعرفت نوعاً من التفكير الموضوعي والتخطيط العلمي، والإرادة الوطنية، بصرف النظر عن النتائج والمآلات.. ففي موضوع بناء السد العالي، مثالاً، كانت هناك ملامح معركة وطنية، تتأسس على ثوابت الانتماء المصري بدوائره الثلاث، العربية والإسلامية والأفريقية، في إطار مواجهة المشروع الصهيوني.
أما الآن فأنت أمام نموذج تنمية تأكل بثدييها، ترهن نفسها للاستسلام التام للمشروع الصهيوني، فتعلن ولاءها له، بغير تحفظ، وتتسول مساعدات الغرب، انطلاقاً من أنها ستعمل على سلامة أمن إسرائيل، وتمد معها الجسور، في الوقت الذي تنسف فيه وشائجها مع قضية مصر والعرب الأولى والمحورية، قضية التحرر الفلسطيني، وتعلن، بلا أدنى مواربة، عداءها السافر لكل أشكال المقاومة، بعد اعتماد واعتناق التصنيف الأميركي والصهيوني لها، حركات إرهابية.
التباين فادح، والتناقض فادح بين مشروعي تنمية، الأول كان يرنو إلى الاستقلال، والثاني يسبح في مستنقعات التبعية الصريحة.
هي المسافة بين محمد منير الذي غنى لسناء محيدلي والكفاح ضد الاحتلال الصهيوني ومحمد منير الذي يترنح مفتوناً برقص فتاة 30 يونيو/حزيران.
شتان بين مصر التي تغني لمشروع المقاومة، ومصر التي تهز وسطها ابتهاجاً بمشروع راقصة لولبية.