"دولة" تهجم على مخيّم
بعيدا عن الدخول في جزئيات المشهد المأساوي، لو نظرنا إلى الصورة من الأعلى، سنجد أن "دولة" بقدراتٍ "إمبراطورية"، وبإمكانات عسكرية تفوق الوصف، وتصدّر منتجات الموت إلى معظم أنظمة القمع والإرهاب في العالم، "تهجم" على مخيم، لا تكاد تزيد مساحته عن كيلومتر مربع واحد، وبعدد سكان يصل بالكاد إلى أحد عشر ألفا، وهذا كله يأتي بعدما بلغت "الدولة" من عمرها 75 سنة، و"أسّست" عددا ضخما من المخيمات، سكنها من اضطرّتهم لترك بيوتهم، وها هي تلحق بهم، بعدما أقض بضع عشرات من الشبان مضاجع هذه "الدولة" العظمى!
حكاية جنين ومخيمها قديمة متجدّدة، ليس لجهة الاجتياح الشهير للمخيم قبل نحو عقدين، بل لجهة كونها مرتبطة بتاريخ عريق من المقاومة، من عز الدين القسّام وأحراش يعبد وفرحان السعدي، وقائمة طويلة من الوقائع التي تعيد تعريف الحكاية الفلسطينية، كلما حاولت طمسها جنازير الآليات الصهيونية، التي حرثت أزقّة المخيم.
قاتل بمنصب رئيس وزراء "دولة" يخرج على الإعلام، ليُخبر "شعبه" بأن "دولته" أرسلت نخبة النخبة من مقاتليها وأكثرهم إجراما، بآلياتهم الثقيلة، وطيرانهم، وأجهزتهم فائقة الدقّة، وأكثر المعدّات تطوّرا في الرصد والتعقب، وكل هؤلاء مسخّرون لملاحقة بضع عشرات من الشبّان. وبعد ساعات طويلة من العمل، يتبجّح بأنه تمكّن من "قتل" بعض هؤلاء، واعتقال آخرين، يشكّ بأن لهم علاقة ما بالشبان المقاتلين الذين قيل إنهم تمكنوا من مغادرة المخيم، رغم الحصار الذي ضربته القوات الغازية على كل مداخله ومخارجه.
أكثر من هذا، يُخطر هذا القاتل إدارة أكبر دولة بأن جيشه ذاهب لمقاتلة هؤلاء الشبّان، ويسارع الناطق باسم إدارة هذه الدولة العظمى، التي دأبت على مشاركة القاتل في جريمته، للتأكيد على حقّ "القاتل" في "الدفاع عن نفسه" في مواجهة "التنظيمات الإرهابية"!
تضيع الصورة الكلية هذه مع دخولنا في التفاصيل، وهي كثيرة: سلطة تحمل صفة "فلسطينية" تجأر بنداء مملٍّ ومتهالك، تدعو إلى حماية دولية لشعبها. وهنا مع بعض التشريح لهذا الخطاب المتكرّر، سنكتشف عبثه وتآكله، فمن يحمي من؟ هل هناك جهة دولية ما يمكن أن تقوم بهذه المهمة في ما يسمّى "المجتمع الدولي"؟ وهذا المجتمع تحديدا هو من يحمي القاتل ويمدّه بآلة القتل والبطش والتدمير ... إذا، ما الهدف من عزف هذه النغمة المملة؟ هو تصريح والسلام، بل إعلان عجز تام، لا يُراد له أن ينتهي. وإمعانا في الكوميديا السوداء، تعلن أبواق السلطة نفسها عن وقف (أو تعليق!) كل الاتصالات واللقاءات مع القتلة والاستمرار في وقف "التنسيق الأمني" (لم يتوقف أصلا حسب اعتراف العدو)، والإعلام العبري يصرح بأن قيادة القتلة أخطرت السلطة بالهجوم. وبناء على هذا سارعت السلطة إياها إلى سحب مسلحيها من المخيم، لإفساح المجال لقوات القتل والبطش لتأخذ "راحتها" في تجريف شوارع المخيّم وهدم البيوت لتمهيد الطريق لآليات القاتل للمرور! أكثر من هذا، تنصُب السلطة نفسها حواجز خارج جنين لمنع المقاتلين من المناطق الأخرى لنجدة جنين واعتقالهم. وإمعانا في التضليل وإعلانا للعجز، "تقرّر" السلطة "تحجيم" علاقتها مع الإدارة التي تمدّ القاتل بالسلاح والغطاء الدولي وتحميه في مجلس الأمن، وكل منصّة كتب فيها ناشط كلمة تناهض "اللاسامية"، علما أن هذه السلطة تستمدّ "شرعيتها" من تلك الإدارة، وبرعايتها يأتيها تمويل ميزانيتها من القارّة العجوز، فعن أي "تحجيم" تتحدّث، بل ما دلالة هذه الكلمة أصلا في القاموس السياسي، إن كان لها دلالة أصلا؟
حكاية جنين ومخيمها قديمة متجدّدة، ليس لجهة الاجتياح الشهير للمخيم قبل نحو عقدين، بل لجهة كونها مرتبطة بتاريخ عريق من المقاومة
نعم، "دولة" تهجم على مخيم، وعبر آليات ومعدّات محصنة، بحيث لا يُرى من القتلة إلا الحديد الذي يحيطهم من كل جانب، وهذا كله خوفا من وقوع قتلى في صفوف القتلة، لأن هؤلاء القتلة لا يحتملون رؤية قطرة دم واحدة تسيل من أحدهم، وتلك حكاية أخرى، فجيش ومجتمع و"دولة" لا تستطيع أن تحتمل مثل هذا المشهد، أنّى لها أن تنتصر؟ في حين أن الجانب الآخر، من أهل الأرض، تطلق نساؤهم الزغاريد كلما ارتقى منهم شهيد.
تلك هي الحكاية التي تروي ما سيحصل مستقبلا، عاجلا أو آجلا، وبلغة الأرقام إن شئنا: ألف قاتل مقاتل مدجّجون بكل أنواع الأسلحة، تدعمهم "دولة" بكامل هيلمانها، ومن ورائها دولة عظمى بل دول، توفّر لها السلاح والدعاية والتغطية الدولية، "تفشل" في القبض على بضع عشرات أو مئات نذروا حياتهم للمقاومة، ومن ورائهم سبعة ملايين ونصف المليون مزروعون في أرضهم من البحر إلى النهر، قال أصغرهم حين سئل ماذا سيكون حينما يكبر: نحن لا نكبر نحن نستشهد؟
لا مستقبل لكم هنا، ارحلوا، اليوم أو غدا، طوعا أو كرها..