دولة المراسيم في تونس

23 فبراير 2022
+ الخط -

تعدّ كثرة المراسيم والأوامر الرئاسية من بين العلامات الواسمة للأنظمة السلطوية/ الأحادية. ذلك أنّ الحاكم المهيمن يستفرد بالسلطة التشريعية، ويتفصّى من الهيئات الرقابية، والمؤسسات التمثيلية الوازنة، ليُملي على النّاس أحكامه، وليمكّن لنفسه ولزمرته وأعوانه، فيوظّف المراسيم والأوامر الرئاسية/ الفردانية ليستقرب من يريد، ويقصي من يريد، ويلغي ما يشاء من القوانين والمنظمات والتشريعات وفق هواه، خصوصا التي يراها تنافسه في السلطة أو تحدّ من نفوذه أو تقوم رقيباً عليه. ويجري ترويج ذلك تحت لافتة شعارات شعبوية، هلامية، مغالِطة من قبيل "المصلحة العامّة"، و"خدمة الشعب"، "وتصحيح المسار وإصلاح البلاد"، فيغدو المرسوم أو الأمر الرئاسي في ظلّ النظام الشمولي نصّاً مطلقاً يُبطل ما قبْله، ولا يحتمل النقض، وكثيراً ما يوظّف لتكريس الحكم الفردي والتضييق على الخصوم السياسيين بشكل أو بآخر.

منذ إعلان ما يعرف بالتدابير الاستثنائية واستعادة ملامح حكم أحادي في تونس، يلاحظ الدارس وفرة المراسيم والأوامر الرئاسية في ظرفٍ وجيز، وبشكل غير مسبوقٍ في تاريخ تونس المعاصر. وفي هذا السياق، جاء في نتائج مشروع "المخبر السياسي117" الذي قدّمته جمعية المساءلة الاجتماعية "من حقي نسألك" أنّ رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، أصدر منذ إعلان التدابير الاستثنائية (25 /07/2021) إلى نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي 245 أمراً رئاسياً و27 مرسوماً، 83% منها لتنظيم السلطة التنفيذية والإدارة، وتضمّن 160 أمراً رئاسياً تعيين موظّفين وإعفاء آخرين، فيما لم تتجاوز القرارات ذات المحتوى الاقتصادي نسبة 7%. كما لم تتضمّن الأوامر والمراسيم الرئاسية تدابير إصلاحية في المجال الاجتماعى (0%). بل ألغى قيس سعيّد القانون 38 المتعلق بتشغيل من طالت بطالتهم، والذي سبق أن ختمه بعدما صدّق عليه البرلمان. وظلّت توجيهاته بتحسين أوضاع المرأة العاملة في القطاع الفلاحي مجرّد وعود فضفاضة. في المقابل، بدا الرئيس مشغولاً بإعادة تنظيم السلطة القضائية على طريقته، واحتكار التشريع، واستتباع مرافق السلطة التنفيذية وتطويعها لإجراء أوامره ومراسيمه. وأمام سيل النصوص التشريعية التي أصدرها رئيس الجمهورية في زمن حكم الاستثناء، يمكن الوقوف عند نصّين بارزين، أسهما في تغيير هيئة الدولة، وإعادة ترتيب العلاقة بين السلطات الثلاث. أعني بذلك الأمر الرئاسي عدد 117 (22 سبتمبر/ أيلول2021)، والمرسوم عدد 11 المتعلّق بإحداث (إنشاء) مجلس قضاء مؤقت، بديلاً عن المجلس الأعلى للقضاء.

الحاجة أكيدة في تونس للخروج سريعاً من زمن الاستثناء، وسلطة المراسيم بغاية استعادة الحكم التشاركي، وإعمال مشروع الدمقرطة المجمّد

يتبين الناظر في متن الأمر الرئاسي 117 أنّه منح رئيس الجمهورية صلاحياتٍ واسعة، وجعله قائماً على السلطتين، التشريعية والتنفيذية، وأسند إليه قوّة تأسيسية. وتكمن خطورة هذا الأمر الرئاسي في كونه علّق كلّ اختصاصات البرلمان المنتخب (الفصل الأوّل)، وافتكّ منه صلاحية التشريع إلى أجلٍ غير مسمّى، وأسندها إلى رئيس الدولة الذي أصبح يدير البلاد عمليّاً وحده بموجب مراسيم محصّنة "لا تقبل الطعن بالإلغاء" (الفصل 7). وهي على خلاف العرف التشريعي، المعمول به دولياً، أعْلى من الدستور(الفصل 20)، ولا تخضع لحسيبٍ ولا رقيبٍ في ظلّ تنصيص الأمر المذكور على "إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين" (الفصل21). وبناء عليه، احتكر الرئيس التشريع، وأصبح في مقدوره سنّ مراسيم في 29 مجالاً، هي من صميم الاختصاص التشريعي للبرلمان، مثل تنظيم القضاء والانتخابات، والإعلام، والصحافة، ونشاط الأحزاب والجمعيات والنقابات، وتنظيم الهيئات الدستورية، وما تعلّق بالحريات وحقوق الإنسان، والأحوال الشخصية. وفي ذلك تكريس لتوجّه فرْداني/ سلطوي في إدارة البلد، وضرْب لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وللدور الرقابي بينهما، وكذا تعطيل غير دستوري لمؤسسة نيابية تشريعية منتخبة.

من الناحية التنفيذية، لم تعد الحكومة بموجب الأمر117 كياناً سياسياً، سيادياً، حيوياً، مستقلّاً، له هويته الذاتية وصلاحياته الدستورية المعتبرة، بل أصبحت كياناً تنفيذياً، صورياً، تابعاً لقصر قرطاج، ويأتمر بأوامر رئيس الجمهورية في كلّ كبيرة وصغيرة، فهو من يُعيّن رئيسها وأعضاءها (الفصل 16)، وهو من يحدث الوزارات، ويضبط اختصاصاتها وصلاحياتها، ويشرف على تعديلها أو حذفها، وهو المكلّف بإقالة عضو أو أكثر أو البتّ في استقالته (الفصل 12). و"تسهر الحكومة على تنفيذ السياسة العامّة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية" (الفصل 17)، وهي مسؤولة أمامه (الفصل 18)، لا أمام البرلمان. ومن ثمّة، نحن إزاء حكومة الرئيس بامتياز، وهي لا تملك قرارها، ولا مصيرها. بل إنّ حضورها صوري، وظيفي، ذلك أنّها ترتهن لإرادة الحاكم بأمره، وظلّ من ظلاله. لكنّها في نهاية المطاف المشجب الذي يعلّق عليه الرئيس كلّ مشروع فاشل.

إلى ذلك كله، منح الأمر117 الرئيس سلطة تأسيسية، فبموجبه "يتولّى إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنةٍ هو من يعيّنها وينظّم صلاحياتها" (الفصل 22). وفي ذلك تمديد لسطوة الرئيس، وإحداث لهيئات غير دستورية، تؤيّد توجّهاته الأيديولوجية، وتتأهب لتغيير النظام السياسي على نحو يساهم في إرساء أركان حكم رئاسوي، مطلق، يقفز على الدستور وإرادة الناخبين، ويعيد إنتاج أسطوانة اختزال الدولة في شخص الرئيس.

أصدر قيس سعيّد منذ إعلان التدابير الاستثنائية (25 /07/ 2021) إلى نهاية يناير الماضي 245 أمراً رئاسياً و27 مرسوماً

أمّا المرسوم الرئاسي عدد 11 (12 فبراير/ شباط 2022) المتعلق بإحداث "المجلس الأعلى المؤقت للقضاء" بديلاً عن المجلس الأعلى للقضاء الذي يعدّ مؤسّسة دستورية منتخبة، فيعدّ، في عمومه، مرسوماً يتضمّن عدّة انحرافاتٍ عن الدستور في نظر خبراء القانون، وفي رأي طيْفٍ معتبر من القضاة، وهو نصّ تشريعي فوقي، تمّ فرضه على أهل القطاع، والمراد به وضع حدّ لاستقلالية المؤسسة القضائية التي دشّنها دستور 2014 أوّل مرّة في تاريخ تونس الحديث، ويضع المرسوم، في مجمله، القضاء تحت جبّة السلطة التنفيذية عموما، وتحت الوصاية الرئاسية خصوصاً. وبموجب المرسوم المذكور، منح رئيس الجمهورية نفسه سلطة تأسيسية ترتيبية ليست من اختصاصه دستورياً، وذلك بإحداثه مجلساً قضائياً مؤقتاً (الفصل الأوّل) يحلّ محلّ المجلس الأعلى، للقضاء الذي مأسسه ونظّمه الدستور، وكذا تغيير تركيبته، وعدد أعضائه (من 45 عضواً إلى 21 عضواً)، فضلاً عن تعيينه بأمر رئاسي عدداً من القضاة المتقاعدين (الفصل 3) بمعدّل ثلاثة قضاة في كلّ فرع من فروع المجلس الثلاثة (عدلي، مالي، إداري)، وهو ما يلغي الشرعية الانتخابية والصفة التمثيلية للقضاة. ولرئيس الجمهورية بمقتضى الفصل 19 حق "الاعتراض على تسمية أو تعيين أو ترقية أو نقلة كلّ قاض بناء على تقرير معلّل من رئيس الحكومة أو وزير العدل". وله أيضاً صلاحية استخدام الفيتو ضدّ ترشيح المجلس قاضيا أو أكثر للخطط القضائية السامية (الفصل 19)، بل إنّ "لرئيس الجمهورية الحق في طلب إعفاء كل قاض بناء على تقرير معلّل من رئيس الحكومة أو وزير العدل" (الفصل 20) من دون أدنى مراجعة للسلطة التقديرية لمجلس القضاة في هذا الخصوص. ومن ثمّة، بات القاضي لا يملك قراره ولا مصيره ولا مستقبله المهني، وهو مجرّد من خصلة الاستقلالية باعتباره أصبح موظّفاً تحت إمرة السلطة التنفيذية وملحقاً بالعناية الرئاسية. كما "يُحجّر المرسوم على القضاة من مختلف الأصناف الإضراب" (الفصل 9)، وهو ما يتعارض مع منطوق الفصل 36 من الدستور الذي جاء فيه أنّ "الحق النقابي - حق الإضراب مضمون". كما يسمح الفصل 16 لوزير العدل بسحب ملفات قضائية من التفقدية العامّة وتكليف المجلس القضائي المؤقت بمتابعة مآلاتها، وهو ما يخرق، في نظر قانونيين، مبدأ "الفصل بين سلط البحث والتتبع وسلطة القرار والحكم". واللافت أنّ الفصل 29 من المرسوم المذكور لم يحدّد، على جهة التدقيق، سقفاً زمنياً لعمل المجلس المؤقت للقضاء، وهو ما يؤشّر إلى احتمال استدامة اعتماده في تنظيم القطاع. والثابت أنّ القضاء التونسي يعاني من البيروقراطية، وطول الآجال، ومحدودية الرقمنة واستشراء المحسوبية والمحاباة والمحاصصة الحزبية، لكنّ إصلاحه لا يعني، بالضرورة، هدم شروط استقلاليته وإخضاعه للسلطة التنفيذية، لأنّ ذلك يؤثّر سلباً على سيرورة العدالة ومطلب تأسيس قضاء نزيه، مطابق للمعايير الحقوقية الدولية.

مراسيم فوق الدولة وفوق القانون، وضدّ الدستور

في ظلّ عيش المجتمع المدني التونسي على وقع مراسيم يومية مرسلة ومطلقة، وهي مراسيم، في نظر حقوقيين، فوق الدولة وفوق القانون، وضدّ الدستور، ويراها مراقبون سيفاً مسلولاً يتهدّد الحالة الديمقراطية التي أبدعتها الثورة بعد 2011، ويخشى كثيرون من أن تتجه سلطة المراسيم نحو تفكيك الأحزاب الفاعلة المعارضة للمنظومة الحاكمة، ونحو التضييق على النقابات والجمعيات الحقوقية والمنابر الإعلامية الحرّة، بغاية تصحير المشهد السياسي والجمعوي والإعلامي وتبديد قوّته النقدية، والمُراد تكبيل مكوّنات المجتمع المدني الحيوية، أو تدجينها أو تحييدها ضمانا لامتداد مشروع الحكم الأحادي.

ختاماً، تكمن خطورة إدارة البلاد بالمراسيم في أنّها تنبني غالباً على مجافاة محامل دستور 2014، خصوصاً ما تعلّق منه بتوزيع الصلاحيات بين مؤسسات الحكم والفصل بين السلطات (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، فسطوة المراسيم تروم مركزة القرار وتجميع السلطات بيد الحاكم الفرد، كما أنّها تنحرف بالحكم من كونه فعلاً مدنياً، تشاركياً، تشاورياً، تعاقدياً لتجعله فعلاً أحادياً وشأناً نخبوياً، لا يخضع للتداول والنقد والنقاش العام. بل القول الفصل فيه للرئيس، والقلّة من ثقاته دون غيرهم. وفي هذا التوجّه إهدار للتعدّدية، ولواجب التداول على السلطة الذي اجترحته الثورة. لذلك الحاجة أكيدة للخروج سريعاً من زمن الاستثناء، وسلطة المراسيم بغاية استعادة الحكم التشاركي، وإعمال مشروع الدمقرطة المجمّد.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.