دعوة إلى انتخابات مُبكّرة في العراق
المُسبّب الأساس للتداعيات المُدمّرة والكارثية التي تقودها التيّارات السياسية في العراق، الشيعية في الأقلّ، منذ مطلع العام الجاري (2024)، هو الوضع الشاذ الذي نتج عن انسحاب نوّاب التيّار الصدري في يونيو/ حزيران 2022. وعددهم 73 نائباً، ما أدّى تلقائياً إلى صعود نوّاب خاسرين من الكتل الشيعية الأخرى، ملأوا مقاعد الصدريين.
لقد بيّنت الإحصاءات تراجعاً كبيراً للكتل الشيعية الراديكالية المُقرّبة من إيران، ما يمثّل مُؤشّراً إلى مزاج الناخب العراقي، الشيعي تحديداً، برفضه للتوجّهات الراديكالية، ولكن هديّة المقاعد الصدرية وازنت هذه الخسارة الشعبية، وحوّلتهم كياناتٍ برلمانيةً قويّة. على سبيل المثال نال تحالف الفتح، الذي يمثّل منظّمة بدر، 19 مقعداً بعد أن كانت كتلتها في برلمان 2018 تضمّ 48 نائباً. ولكن هديّة الصدر عدّلت هذه المقاعد لتغدو 31. كذلك، لم تنل كيانات مُتطرّفة سوى مقعد واحد، فغدت بخمسة أو بستّة مقاعد، للسبب ذاته؛ هديّة على طبق من ذهب من خصمهم، الذي بدلاً من المسعى الطبيعي إلى التضييق عليهم جعلهم، كما هي حال المنافسات السياسية المُتعارف عليها، أهدى أصوات ناخبيه لخصمه اللدود.
لو أن الصدر انسحب قبل الانتخابات لكان للناخب العراقي رأيٌ آخر، وعلى الأغلب فإنّ انسحاب الصدر من الانتخابات لن يُؤدّي إلى صعود أسهم منافسيه من أحزاب الإسلام الشيعي المُتطرّف. ولهذا من الصعب لوم المُراقب الذي يستنتج أنّ انسحاب الصدر كان سلوكاً لحليف أكثر ممّا يبدو سلوكاً لخصم. ولكن، من جانب آخر، فإنّ الوضع الذي تشكّل عقب إعلان نتائج انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وشعور الأطراف المليشياوية بأنّها خاسرة أو جاءت ثانياً بعد كتلة الصدر البرلمانية، ما يجعل له سلطة وأعلوية عليها، ثمّ تظاهرات مناصرين لهذه المليشيات... ذلك كلّه كان يُنذر باندلاع مواجهات وربّما أعمال عنف بين الفريقين. وقد يقول قائل إنّ انسحاب الصدر أبطل فتيل أزمةٍ يدفع إليها الطرف الآخر، غير مبالٍ بأيّ خسائر تحصل للبلاد كلّها.
في كلّ الأحوال، فإنّ النتيجة التي انتهينا إليها برلمان منقوص الشرعية في مستويَين. الأول، الإقبال الضعيف على التصويت بشكل عام، فاعتبر مراقبون هذه الانتخابات الأقلَّ شعبية مقارنةً بالانتخابات السابقة. والثاني، جلوس أشخاص على مقاعد المجلس التشريعي من دون أن يكونوا قد حصلوا على تزكية من الشعب، وإنّما لمُجرّد أنّ القانون الانتخابي رفعهم في مكان الصدريين المُنسحبين.
لم يقم هذا البرلمان منقوص الشرعية بواجباته تجاه الشعب العراقي، واستثمر منصّةًَ أكبر سلطة تشريعية في البلاد، ليحوّلها منبراً للصراعات السياسية وإثارة النعرات الطائفية، فبطرحه، على سبيل المثال، مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية، فقد هدّد بتمزيق وحدة المجتمع العراقي وسِلْمِه وأمنه، وفتح على الناس مشكلاتٍ لا موجب لها، ولا تُمثّل أولوية في مصالح الناس.
هذا البرلمان، وكذلك ما يرسله زعيم التيّار الصدري من رسائل من خلف جدران البرلمان، يفتتحان ساحةَ مواجهةٍ طائفية، في مزايدة عنوانها من الأكثر شيعية من الآخر، ولا تعرف لماذا لا يُفكّر زعيم التيار الصدري، الذي كان ذا شعارات وطنية منذ وقت قريب، بأنّه، وهو يشمّر عن ساعديه للمنافحة السياسية، يُهدّد بتمزيق الإجماع الوطني، ويرسل رسائل سالبة إلى الشركاء من السنّة والكرد، ما يجعلهم يُفكّرون بحلول تبعدهم عن الإجماع الوطني، مثل إحياء فكرة الإقليم السنّي، للفرار من الغرق في المستنقع الشيعي.
على الأغلب، سينسى هذا البرلمان مشروع قانون النفط والغاز مركوناً في الأدراج، وقانون الأحزاب، وغيرها من القوانين المُهمّة لمستقبل البلاد، ويخترع في قابل الأيّام مشاريع طائفية جديدة تثير حفيظة العراقيين، وتُنشِب بينهم نيران البغضاء والكراهية، أو يستعيد قانون تنظيم حرّية التعبير سيئ الصيّت، ليضعه على طاولة النقاش البرلماني لإثارة غيظ المجتمع المدني العراقي.
وبسبب ذلك، لا حلّ يجتمع عليه النشطاء، والمنظمات والمُثقّفين، سوى الدعوة لانتخابات مُبكّرة، ورفع دعوى قضائية أمام الادّعاء العام لتعطيل عمل هذا البرلمان، لأنّه يعمل ضدّ مصلحة الشعب العراقي، ويُهدّد وحدة البلاد ومصالحها العليا.