دروس لا يستفيد منها أحد

09 سبتمبر 2023
+ الخط -

قرّر رئيس غينيا ألفا كوندي (أول رئيس منتخب ديمقراطياً في بلاده في عام 2010)، في 2018، تكوين قوة نخبة عسكرية للحفاظ على وحدة البلاد. كانت لدى الرجل مخاوفه من طموح الجيش الغيني في السلطة، فرأى أن يحمي نفسه بتكوين هذه القوة الخاصة.

استدعى الرئيس الضابط المتقاعد، مامادي دومبويا، الذي سبق أن خدم في أفغانستان وجيبوتي وأفريقيا الوسطى، ليكون على رأس هذه القوات الخاصة. بعد عامين فقط من تكوين هذه القوات، في عام 2020، بدأ توتر بين كوندي ودومبويا بشأن المخصّصات المالية للقوّة، ولرغبة الأخير في حصولها على مزيد من الاستقلالية عن وزارة الدفاع، الأمر الذي رفضه الرئيس كوندي.

في سبتمبر/ أيلول 2021، قامت قوات النخبة بقيادة دومبويا بانقلاب عسكري، واعتقلت الرئيس واستولت على حكم البلاد. ... قوة النخبة التي كان يفترض أن تحمي السلطة استولت عليها.

في موسكو، في عام 2014، استعانت السلطات الروسية بمجموعة شبه نظامية بقيادة يفغيني بريغوجين المقرّب من بوتين. انتشرت مجموعة فاغنر شبه العسكرية في دول عدة لحماية المصالح الروسية. وعبر ثلاث قارّات، أوروبا وآسيا وأفريقيا، شاركت المجموعة في معارك عسكرية، وفي تعزيز المصالح الاقتصادية الروسية. بداية من الحرب السورية والسودان وليبيا وأفريقيا الوسطى ومدغشقر وغيرها. وتتفاوت مهامّها في أفريقيا بين حماية حكومات حليفة، وتنفيذ انقلاباتٍ على حكومات موالية لفرنسا والغرب، وبين حماية استثمارات روسية في مجال الذهب. لكن "سنوات العسل" لم تستمرّ إلى الأبد، فسرعان ما دبّت الخلافات بين بريغوجين المشهور بـ"طبّاخ بوتين" وقيادات وزارة الدفاع الروسية، ما أدّى إلى تمرّد قوات فاغنر ومحاولتها الهجوم على موسكو، وهي المغامرة التي انتهت باتفاق هدنةٍ ثم موت بريغوجين في حادث تحطّم طائرة لا يمكن تصوّر أنه لم يكن بفعل فاعل.

لم يكن النموذج السوداني مختلفاً عن أمثاله حول العالم وفي التاريخ، فعادة ما يزداد نفوذ قوات النخبة التي يحتمي بها الحكام أو يستعينون بها، حتى يؤدّي هذا النفوذ إلى مواجهة. أنشأ نظام الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، قوات الدعم السريع لمعاونة القوات المسلحة السودانية في حرب دارفور. وهي عادة قديمة للنظام السابق، فعل مثلها في حرب جنوب السودان (1955- 2005) عندما أسّس مليشيات الدفاع الشعبي. وعند وقوع المفاصلة بين البشير والزعيم الإسلامي الراحل حسن الترابي في 1999 انحاز فصيل إسلامي من قوات الدفاع الشعبي يعرف باسم "الدبابين" الى جانب الترابي في مواجهة البشير، لكن الأمر لم يتطور إلى مواجهة مسلحة. أما قوات الدعم السريع فقد نمت بسرعة وبقوّة، حتى لاحت لها اللحظة المناسبة، فتخلت عن حماية نظام البشير، وانحازت إلى قرار اللجنة الأمنية بخلع الرئيس السابق، تحت ضغط شهور من المظاهرات والمواكب والغضب الشعبي.

فعلت قوات الدعم السريع ما فعله المماليك والانكشارية وغيرهم عبر التاريخ. رأى جميعهم أنه أحق بأن يتولّى السلطة، لا أن يكتفي بحمايتها. وهو الطموح الذي تحقق لقائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعد 12 إبريل/ نيسان 2019، حين أصبح نائب رئيس المجلس العسكري الحاكم، ثم نائب رئيس مجلس السيادة. أصبح رسمياً الرجل الثاني في الدولة، وشريكاً رئيسياً في حكم البلاد.... ولكن متى كان يمكن لرجل طموح أن يكتفي بمنصب الرجل الثاني؟

كانت ثلاث سنوات كافية لإقناع الرجل الطموح بأن مقعد الرجل الأول يناديه، ولم يكن ذلك إغراءً عسيراً. إذ شاهد قائد الدعم السريع كيف أنه حمى وساعد على وجود أشخاص متواضعي القدرات، مثل الرئيس الأسبق البشير وقائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في منصب الرجل الأول. فلماذا لا يجلس هو في هذا الكرسي؟ كان الرئيس السابق يلقّب محمد حمدان دقلو حميدتي بـ"حمايتي". وقال عنه البرهان إنه يحرس أمن البلاد بينما البقية ينامون في منازلهم. انقلب حميدتي على الأول، وحارب الثاني.

دروس تاريخية متكرّرة. تعلمنا أن اعتماد الحكام على المليشيات ينتهي دوماً بتمرّد المليشيا. لكن لا أحد يتعلم. وفي الخرطوم يبدو أن الدرس، رغم قسوته، لم يكن واضحاً، فلمواجهة مليشيا الدعم السريع تستعين الخرطوم بمليشيا من الحركة الإسلامية وبتسليح المتطوعين. كأنما السودان يحتاج إلى أن يعيد إنتاج كارثته الخاصة.